يهود جنّة مال اللّه: من مذكّرات العوالم الثلاثة لآفي شلايم (2/2)
![](https://khaleejeyes.com/wp-content/uploads/2025/02/20250213092247.jpg)
هذا المقال هو الجزء الثاني من قراءتنا في مذكّرات "آفي شلايم".
"غادرنا العراق لأنّنا يهود ووصلنا إلى إسرائيل بوصفنا عراقيّين" يقول آفي شلايم، ومثله كان لسان حال معظم اليهود العرب القادمين من العراق، بما عرف بـ"الهجرة الكبرى إلى إسرائيل"، والّتي هاجر فيها ما يقارب 110 آلاف يهوديّ من العراق إلى البلاد في الفترة ما بين حزيران/يونيو 1950 وحزيران/يونيو 1951.
قيل وكتب الكثير قبل أن يكتب آفي شلايم عمّا حلّ بيهود العراق من مؤامرة دبّرتها لهم الصهيونيّة من أجل إخراجهم من مدينتهم بغداد على أثر النكبة عام 1948. ومع ذلك، يظلّ لرواية شلايم في مذكّراته عن تلك القضيّة أهمّيّة فيها إضافة على ما كُتِب من قبله لأمرين: الأوّل، لأنّ آفي شلايم كان أبراهام الطفل من بين أطفال يهود بغداد الّذين تركوا مدينتهم برفقة ذويهم، وقد اعتمد شلايم بشكل أساسيّ على ذاكرة أمّه مسعودة وغيرها من اليهود العراقيّين الّذين ظلّوا متمسّكين بذاكرتهم العراقيّة – العربيّة في نبش تاريخ يهود بغداد وقصّة ترحيلهم منها. والثاني، لأنّ شلايم صار مؤرّخًا احترف الكتابة في حقل اليهود والصهيونيّة، ممّا دفعة متوخّيًا موضوعيّة المؤرّخ للنبش في الأرشيفات والوثائق حول رحلة بحثه عن مأساة يهود العراق مع الصهيونيّة. بالتالي، فإنّ لروايته أهمّيّة، ليس لأنّها تفكّك الرواية الصهيونيّة فحسب، إنّما لأنّها تصحّح في كثير من تفاصيل الأيدي الخفيّة الّتي عبثت في بقاء يهود العراق في عاصمته بغداد ما بين 1950-1951.
"انتهت الحرب عام 48 بنصر يهوديّ وإعلان قيام دولة إسرائيل في منتصف الليل"، يقول شلايم في دلالة تحملها عبارة "منتصف الليل" عن شكل قيام الدولة العبريّة وشرعيّتها. كان إعلان الصهيونيّة قيام دولتها في منتصف الليل، غير أنّ السطو على أرض الفلسطينيّين مسلّحًا كان في وضح نهار القرن العشرين. أنتبه يهود العراق إلى الصهيونيّة ومشروعها مبكّرًا منذ ما قبل النكبة بعقود، وقد رفضوها على اعتبار الصهيونيّة "شيء أشكنازيّ"، وهي عبارة مسعودة الشهيرة لابنها آفي حين سألها عنها. وعلى الرغم من مأساويّة أحداث ما عرف بـ"الفرهود"، وهي الاعتداءات على يهود بغداد في مطلع أربعينيّات القرن الماضي، إلّا أنّ الفرهود لم تدفع يهودها للارتماء في أحضان الصهيونيّة. ولمّا أُقِرّ قرار التقسيم في تشرين الثاني/نوفمبر 1947، كان مجلس طائفة يهود العراق أوّل من تنطّع ببرقيّة إلى الأمم المتّحدة عارض فيها قرار تقسيم فلسطين وخلق الدولة اليهوديّة، إذ أدرك يهود العراق أنّ قيام دولة يهوديّة في فلسطين سيقوّض من مكانتهم في العراق، معطوفًا عليه إدراكهم للظلم بحقّ الفلسطينيّين.
غير أنّ صدور قرار التقسيم أواخر عام 1947، كان كفيلًا وحده بتأجيج مشاعر العراقيّين ضدّ يهود العاصمة بغداد، وذلك قبل أن الإعلان عن قيام الدولة اليهوديّة، حيث بدأ العراقيّون منذ نهاية ذلك العام يجوبون شوارع عاصمتهم بالهتاف: "الموت لليهود". وفي تمّوز/ يوليو 1948 مررت الحكومة العراقيّة قانونًا يجرّم الصهيونيّة ويعاقب عليها بالموت أو السجن مدّة لا تقلّ عن سبع سنوات. إذا كانت أحداث الفرهود عام 1941 سلوكًا ذات طابع اجتماعيّ صعد من أسفل القاعدة الشعبيّة – البغداديّة ضدّ يهود المدينة، فإنّ ممارسات التضييق على يهود بغداد منذ أواخر عام 1947 كانت من أعلى برعاية الحكومة العراقيّة الّتي ضيّقت على يهود العاصمة بسلسلة قوانين وإجراءات جعلتهم يتحسّسون رؤوسهم.
إذا كانت اللاساميّة الأوروبّيّة قد تكثّفت رمزيًّا في قضيّة محاكمة الضابط اليهوديّ درايفوس في فرنسا، فإنّ محاكمة شفيق عدس في أيلول/سبتمبر 1948 في بغداد مثّلت بالنسبة للطائفة اليهوديّة العراقيّة ذروة عداء العرب والمسلمين لليهود، بينما الصهيونيّة لأغراضها الاستعماريّة، اعتبرت قضيّة عدس وهو يهوديّ من كبار أغنياء مدينة بغداد بمثابة المثال الأبرز الّذي يدلّ على "اللاساميّة الشرقيّة". اتّهمت محكمة بغداد شفيق عدس بيعه أسلحة إلى إسرائيل ودعم الحزب الشيوعيّ العراقيّ، وربّما الثانية في ظلّ عداء حكومة نوري السعيد للشيوعيّين هي ما دفعت إلى محاكمة عدس الصوريّة الّتي أفضت إلى الحكم عليه بالإعدام شنقًا. بحسب شلايم، رنّت قضيّة عدس جرس وجود اليهود في عراقهم العربيّ – الإسلاميّ، غير أنهم لم يخرجوا من عاصمته إلّا بعد سنتين على قضيّة عدس، حيث كانت خمس قنابل في انتظار ما لا يقلّ 120 ألف يهوديّ تكفّلت بإخراجهم من العاصمة العراقيّة بغداد.
يؤكّد آفي شلايم، على أنّ قلّة قليلة وبسيطة جدًّا من بين يهود العراق آمنت بالمشروع الصهيونيّ، حتّى عام قيام الدولة العبريّة سنة 1948، فتعداد يهود بغداد الّذي تراوح ما بين 130 – 135 ألف يهوديّ، كان ما لا يزيد عن ألفين منهم قد انتسبوا للحركة الصهيونيّة، أي قرابة 1،5%. ومن بين هؤلاء من كانوا أداة الصهيونيّة في تنفيذ مؤامرة ترحيل يهود العراق إلى فلسطين. لم يؤد إلقاء خمس قنابل متفرّقة على دور عبادة ومرافق يهوديّة في بغداد إلى مقتلة يهوديّة ولا إلى حمّام دم كما حدث في أحداث الفرهود، غير أنها دفعت فعليًّا إلى خروجهم من العاصمة العراقيّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، تثبت قضيّة القنابل براء ذمّة العراقيّين العرب والمسلمين في العاصمة منها.
استهدفت القنابل خمسة مواقع يهوديّة في بغداد خلال عامي 1950 و1951، وإحدى القنابل الخمس مثّلت حادثة مميتة، وكانت الأكثر شهرة في 14 كانون الثاني/يناير 1951، حين قذف بقنبلة يدويّة إلى الفناء الأماميّ لكنيس مسعود شمبتوب، وأسفرت عن مقتل أربعة يهود وجرح نحو عشرين آخرين. دأب متحدّثون باسم الصهيونيّة، يقول شلايم، على إنكار أيّ تورّط لهم في التفجيرات، لا بل عزوا الهجمات إمّا للحكومة العراقيّة بحثًا عن كبش فداء لهزيمة العرب في الحرب من أجل فلسطين عام 48، أو إلى عناصر يمينيّة متطرّفة أرادت إبعاد اليهود إلى خارج البلاد، وأشير بأصبع اللوم إلى حزب الاستقلال المناصر للعرب، والمعروف بالخوف من الأجانب، والمناهض بشدّة لليهود.
"جميع أقاربي في إسرائيل كانوا مقتنعين تمامًا، بدليل أو من دون دليل، أنّ الحركة الصهيونيّة السرّيّة هندست لرحيلنا من العراق"، يقول آفي شلايم، عن ذاكرة أهله الّتي حفرت في ذاكرته منذ أن كان طفلًا في رمات غان. غير أنّ شلايم المؤرّخ يعود منقّبًا ومتأخّرًا من عالمه الثالث في العاصمة البريطانيّة لندن، للبحث في وثائق الدولة العبريّة وذاكرة العراقيّين فيها عن خيوط المؤامرة، ليثبت له عام 2017 وبالدليل، بأنّ "موساد الأليا بت" (وحدة ييشوف الّتي قادت الهجرة غير الشرعيّة إلى فلسطين)، ومعها الحركة الصهيونيّة السرّيّة في العراق، كانتا وراء تفجيرات بغداد. كان المناخ الّذي خلّفته أحداث الفرهود عام 1941، قد دفع بمجموعة من يهود العراق للالتحاق بالصهيونيّة في فلسطين، ثمّ العودة من هناك إلى العراق كجواسيس صهاينة، عملوا على تكوين اتّصال مباشر باليهود المحلّيّين، وتعليم اللغة العبريّة ونشر الرسالة الصهيونيّة. فضلًا عن مهامّ أخرى اقتضت تنظيم الفرار غير الشرعيّ لليهود من العراق إلى فلسطين عبر إيران تحديدًا، وقد هربت لهؤلاء أسلحة، وتلقّوا تدريبًا على استخدامها، إلى أن صاروا ضمن حركة صهيونيّة سرّيّة منظّمة أطلق عليها اسم الحركة السرّيّة "حتنوا" أو "الحركة"، بينما سمّي جناحها العسكريّ "حاشورا" أو "العمود" كان معظم أفراد الحركة من يهود بغداد الفقراء، وفي اجتماعات حركتهم السرّيّة، كانوا يمرّرون كتاب التناخ ومسدّسًا من يد إلى أخرى، كتقليد أداء قسم الولاء للحركة والحركة الصهيونيّة عمومًا.
لم يتحرّج آفي شلايم في سياق فضحة لدور الحركة الصهونيّة في تهجير يهود العراق، من ذكر أسماء من تورّطوا من الحركة الصهيونيّة السرّيّة في بغداد، من بينهم من تحوّلوا لاحقًا في إسرائيل إلى كتاب كتبوا في تفنيد دور الصهيونيّة ومسؤوليّتها عن تدبير إلقاء القنابل الخمس في بغداد مثل موردخاي بن – بورات، واسمه العربيّ قبل صهينته هو مراد، واشتهر بين يهود بغداد الّذين شكّوا بتورّطه في تدبير مؤامرة القنابل بلقب "مراد أبو القنابل". كما أشار شلايم إلى مسؤوليّة يهوديّ عراقيّ آخر يدعى يوسف إبراهيم بصري عن إلقاء ثلاث قنابل من القنابل الخمس، وقد ولد بصري في بغداد سنة 1933، غادرها سنة 1949 بطريقة غير شرعيّة إلى فلسطين، وجند في الموساد الإسرائيليّ، وأعيد إلى بغداد جاسوسًا ووكيل أمن. ومصدر شلايم في دور بصريّ كان يهوديّ عراقيّ آخر اسمه يعقوف كركوكلي، كان جار وصديق والدة شلايم مسعودة في رمات غان، وقد كان رفيقًا لبصري، وقابله شلايم في سنة 2017 وقد أسرّ له بتلك التفاصيل المتّصلة بدور بصري في إلقاء بعض القنابل بتوجيه من ضابط استخبارات إسرائيليّ يدعى ماكس بنيت من مقرّه في إيران، من أجل دفع يهود بغداد لترك المدينة إلى فلسطين. كما أشار شلايم إلى تواطؤ ضبّاط شرطة عراقيّين مسلمين في تسهيل مخطّطات الحركة الصهيونيّة السرية البغداديّة.
"يهود يمشون كالسائرين في نومهم"، يصف آفي شلايم حال معظم يهود بغداد عندما اضطرّوا على أثر إلقاء القنابل الخمس إلى التقدّم في نهاية العام 1951 بطلب التسجيل لمغادرة العراق، وقد زاد تعدادهم عن 120 ألف يهوديّ، أي كلّ يهود مدينة بغداد تقريبًا. وقد نظّمت الحكومة العراقيّة خلال ذلك العامين 1950 و1951 ما عرف بعرض "إسقاط الجنسيّة العراقيّة الطوعيّ" عن يهود العراق.
كانت إيران بحسب آفي شلايم الدولة الّتي أخذت على عاتقها عمليّة تسهيل هجرة يهود العراق إلى فلسطين عبر أراضيها، سواء كانت هجرتهم شرعيّة أو غير شرعيّة، حيث لعب شاه طهران دورًا بالغ الأهمّيّة فيما عرف صهيونيًّا بـ "عمليّة عزرا ونحميا" أي تهجير يهود العراق إلى فلسطين، بينما جدّة آفي شلايم ظلّت تطلق على تلك العمليّة ودور إيران فيها اسم "رحلة السوق السوداء". قنابل خمس بالتقسيط، وهجرة مأساويّة على دفعة واحدة في عام واحد تقريبًا، ترك فيها اليهود بغداد جنّة مال اللّه كما كان يحلو لهم تسميتها إلى فلسطين الّتي غدت إسرائيل، ومعظمهم إلى مستوطنة رمات غان الّتي أضحت بغداد إسرائيل لكثرة حيث لم يكن يسمع في فضائها طوال عقدي الخمسينيّات والستّينيّات من القرن الماضي سوى صوتي أمّ كلثوم وناظم الغزالي، وذلك بعد المرور في مطار تل أبيت ورشهم تحت خراطيم مبيد الحشرات (DDT) لتعقيمهم، ومن ثمّ خلع أسمائهم العربيّة واستبدالها بما يوازيها عبريًّا.
لم يتصالح آفي شلايم مع بلاد، اقترحت عليه قسرًا أنها أرض ميعاده، فقد غادرها بدوره ولم يبلغ سنّ البلوغ إلى لندن مدينة عالمه الثالث، ولا نظنّها تعني القارئ كثيرًا.
المصدر: عرب 48