75 عامًا على النكبة ونضال الفلسطينيّين
سلّم البريطانيّون «قضيّة فلسطين» إلى الأمم المتّحدة المتشكّلة حديثًا، والّتي صوّتت في 29 نوفمبر 1947 لصالح خطّة تقسيم فلسطين إلى دولة يهوديّة ودولة عربيّة، وخصّصت الخطّة غالبيّة البلاد، بما في ذلك الموانئ والأراضي الزراعيّة الرئيسة، للدولة اليهوديّة
مهجّرون فلسطينيّون إثر النكبة عام 1948 (Getty)
مقدّمة المترجم:
نشرت هذه المقالة على موقع The Conversation قبل ذكرى النكبة بأيّام، وهي موجّهة لجمهور غربيّ بالمقام الأوّل، وننشر ترجمتها على موقع عرب 48 لاستعراض وصول السرديّة الفلسطينيّة وتحوّلاتها في الغرب وفي الجنوب العالميّ.
نظّمت الأمم المتّحدة في 15 مايو 2023 اجتماعًا خاصًّا رفيع المستوى لإحياء الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة، وهذه هي المرّة الأولى الّتي تحيي فيها المنظّمة الدوليّة هذا اليوم، وأشار المنظومون إليه على أنّه «تذكير بالظلم التاريخيّ الّذي عانى منه الشعب الفلسطينيّ».
ولكن ليست كلّ الدول مشاركة في هذه اللحظة، إذ صوّتت المملكة المتّحدة والولايات المتّحدة ضدّ إحياء هذه الذكرى، ودّعت وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة إلى «عدم المشاركة في الحدث الّذي يتبنّى الرواية الفلسطينيّة والّذي تعارض حقّ إسرائيل في الوجود».
أرى قرار الأمم المتّحدة، بصفتي باحثة يدرس التاريخ الفلسطينيّ، تتويجًا لعمليّة طويلة، حيث كافح الفلسطينيّون على مدى عقود من أجل الاعتراف الدوليّ بالنكبة في مواجهة سرديّات وروايات حاولت التقليل من محنتهم على الدوم. بدأ الأمر يتغيّر.
ما النكبة؟
كانت النكبة جزءًا من مشروع أطول لتهجير الفلسطينيّين من وطنهم. هاجر عدد متزايد من الصهاينة (القوميّون اليهود) من روسيا وأجزاء أخرى من أوروبا إلى فلسطين منذ أوائل القرن العشرين، هربًا من معاداة السامية، كما سعى العديد من هؤلاء المستوطنين إلى إقامة سيادة يهوديّة على أرض كان يسكنها منذ فترة طويلة المسلمون والمسيحيّون واليهود وغيرهم. ونتيجة للاستيطان الصهيونيّ، أجبر آلاف الفلّاحين على ترك أراضيهم الّتي عاشوا عليها لأجيال. قاوم العديد من الفلسطينيّين هذا التهجير الاستعماريّ طوال عشرينيّات وثلاثينيّات القرن الماضي. لكن ووجّهت مقاومتهم بالقمع على يد القوّات الاستعماريّة الّتي كانت تحكم فلسطين في ذلك الوقت. شنّت الميليشيات الصهيونيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، ومع انتشار أهوال الهولوكوست وتزايد التعاطف الدوليّ مع المحنة اليهوديّة، هجمات مميتة أسفرت عن مقتل مئات الفلسطينيّين والبريطانيّين.
وسلّم البريطانيّون «قضيّة فلسطين» بعدها إلى الأمم المتّحدة المتشكّلة حديثًا، والّتي صوّتت في 29 نوفمبر 1947 لصالح خطّة تقسيم فلسطين إلى دولة يهوديّة ودولة عربيّة، وخصّصت الخطّة غالبيّة البلاد، بما في ذلك الموانئ والأراضي الزراعيّة الرئيسة، للدولة اليهوديّة، على الرغم من أنّ اليهود كانوا يشكّلون حوالي ثلث السكّان في ذلك الوقت. كانت الخطّة ستجبر نصف مليون عربيّ فلسطينيّ يعيشون في الدولة اليهوديّة المقترحة على اتّخاذ خيار صارم: العيش كأقلّيّة في بلدهم أو المغادرة.
رفض الفلسطينيّون الخطّة وبدأ القتل. هاجمت الميليشيات الصهيونيّة المدرّبة جيّدًا الفلسطينيّين في المناطق الّتي صنّفت جزءًا من الدولة اليهوديّة المقترحة، وفّر بعض الفلسطينيّين خوفًا ممّا فعلته العصابات الصهيونيّة بأهل القرى كما حصل في مجزرة دير ياسين.
كانت العصابات الصهيونيّة قد أجبرت، بحلول وقت إعلان استقلالها في 14 مايو 1948، ما بين 250 ألفاً و350 ألف فلسطينيّ على ترك أراضي أجدادهم. وأصبح اليوم التالي لهذا الإعلانيّ، أي 15 مايو، يعرف بيوم النكبة. ومع لجوء الفلسطينيّين إلى الدول المجاورة، شاركت جيوش 5 دول عربيّة، كانت ترغب في منع قيام الدولة اليهوديّة وفي محاولة لوقف نزيف اللاجئين، في المعارك ضدّ العصابات الصهيونيّة. استمرّ القتال بين الجيوش الإسرائيليّة والعربيّة طوال ذلك الصيف والخريف، وواصل الجيش الإسرائيليّ، عبر استخدام ترسانة عسكريّة مدجّجة، احتلاله للأراضي الّتي صنّفتها الأمم المتّحدة في السابق على أنّها جزء من الدولة العربيّة (فلسطين)، وهو ما أدّى إلى طرد وتهجير مزيد من الفلسطينيّين من منازلهم وقراهم، والّذي هربوا مشيًا على الأقدام حاملين كلّ ما في وسعهم على ظهورهم، وبحلول نهاية الحرب عام 1949، أشارت التقديرات إلى أنّ 750 ألف فلسطينيّ كانوا قد طردوا على أيد العصابات الصهيونيّة، أو فرّوا خوفًا من ويلاتها.
معركة سرديّة النكبة
لقد صاغت السرديّات الفلسطينيّة والإسرائيليّة الرسميّة ما حدث بطرق مختلفة للغاية. أصرّ الفلسطينيّون منذ عام 1948 على حقّهم في العودة إلى ديارهم وأراضيهم الّتي طردوا منها مستشهدين بالإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، الصادر في ديسمبر 1948، والّذي ينصّ على أن: «(1) لكلّ فرد حقّ في حرّيّة التنقّل وفي اختيار محلّ إقامته داخل حدود الدولة. (2) لكلّ فرد حقّ في مغادرة أيّ بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده» .
لكنّ المسؤولين الإسرائيليّين تمسّكوا بسرديّة أنّ الفلسطينيّين تركوا أراضيهم بناء على طلب قادتهم، وبالتّالي يجب توطينهم في الدول العربيّة المجاورة، كما حاجوا بأنّ إسرائيل قد استوعبت حوالي 900 ألف لاجئ يهوديّ طردوا من الدول العربيّة بعد تأسيس إسرائيل، ولا ينبغي عليها القبول بعودة اللاجئين الفلسطينيّين أيضًا.
كان الأمريكيّون عمومًا، لعقود من الزمان، يتعاطفون بشكل أكبر مع الموقف الإسرائيليّ، وأحد أسباب ذلك هو رواية «الخروج» المنشورة عام 1958، والّتي حقّقت أعلى المبيعات، والفيلم المبنيّ عليها 1960. ويظهر بحثي أنّ الرواية استندت إلى استعارات استشراقيّة معادية للعرب لإعفاء القوّات الصهيونيّة والإسرائيليّة من دورها في خلق أزمة اللاجئين الفلسطينيّين.
كان «إنكار النكبة» كما يصفها العلماء مثلي منتشرة، واستندت إلى فكرة أنّ الفلسطينيّين «عرب» ويمكن توطينهم عمومًا في أيّ دولة عربيّة أخرى، وأنّهم ليسوا شعبًا يرتبط طعامه ولباسه ولهجاته بأماكن معيّنة في فلسطين، ولا يختلف عن الموجود في البلدان العربيّة المجاورة.
سعى الفلسطينيّون في إحيائهم للنكبة لتقديم رواية مضادّة تربط الثقافة والمجتمع الفلسطينيّ بمدنهم وقراهم قبل عام 1948. حزن الفلسطينيّون في البداية على فقدان وطنهم بهدوء، لكنّهم في الستّينيّات، شكّل شبابهم منظّمات سياسيّة تهدف إلى لفت الانتباه الدوليّ لقضيّتهم. وشمل ذلك عقد فعّاليّات عامّة في 15 مايو/أيّار لتثقيف الجمهور في الدول العربيّة وحول العالم بشأن علاقاتهم بأرضهم والضغط من أجل حقّهم في العودة.
احتلّت إسرائيل في أعقاب حرب حزيران/يونيو 1967 الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. وسعى الفلسطينيّون منذ ذلك الحين في جميع أنحاء العالم إلى استغلال 15 مايو للفت الانتباه ليس فقط إلى محنة اللاجئين الفلسطينيّين الّذين يعيشون في المنفى، ولكن أيضًا لأولئك الّذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيليّ.
حصل الفلسطينيّون على دعم كثيرين في الجنوب العالميّ، وهو مصطلح لوصف البلدان ذات الدخل المنخفض في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبيّة بشكل رئيسيّ، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى التجارب الاستعماريّة المشتركة للعديد من تلك الدول. وفي حين دعم الجماعات الأميركيّة الإفريقيّة في الولايات المتّحدة القضيّة الفلسطينيّة، ظلّت النكبة في معظم أنحاء الغرب غير معروفة إلى حدّ كبير.
نظّم النشطاء في الولايات المتّحدة وحول العالم في عام 1998، مع احتفال الفلسطينيّين بمرور 50 عامًا على النكبة، فعاليّات تذكاريّة. وركّز المنظّمون الأحداث للمرّة الأولى حول موضوع واحد: تذكّر النكبة. أعلن رئيس السلطة الفلسطينيّة ياسر عرفات، في العام نفسه، رسميًّا ما كان غير رسميّ منذ فترة طويلة: يوم 15 مايو يوم النكبة.
نشرت مجموعة من العلماء الإسرائيليّين تعرف باسم «المؤرّخين الجدد» في غضون ذلك دراسات موثّقة بعناية أكّدت رواية الفلسطينيّين لما حدث عام 1948. قوّضت هذه الدراسات الإنكار الإسرائيليّ الرسميّ الطويل الأمد لدورها في خلق النكبة. كما فتحوا الباب أكثر أمام الاعتراف العالميّ بتجارب الفلسطينيّين.
ما تزال الحكومات الإسرائيليّة وبعض حلفائها الغربيّين على الرغم من كلّ ذلك يعارضون الاعتراف بالنكبة. حظر وزير التعليم الإسرائيليّ في عام 2009 استخدام المصطلح العربيّ «النكبة» في الكتب المدرسيّة الإسرائيليّة. ثمّ أقرّ البرلمان الإسرائيليّ عام 2011 «قانون النكبة»، الّذي يسمح للحكومة بسحب التمويل من منظّمات المجتمع المدنيّ الّتي تحيي ذكرى النكبة. وما يزال هذا القانون ساريًا حتّى الآن.
ولا تقتصر التقييدات على السرديّة الفلسطينيّة داخل حدود إسرائيل، إذ أيّدت المحاكم الألمانيّة قرار شرطة برلين بإلغاء العديد من احتجاجات يوم النكبة المخطّط لها في تلك المدينة. يواصل الفلسطينيّون على إحياء يوم النكبة برغم كلّ القيود والمعارضة في أماكن العالم كافّة. وتقول الجامعات الفلسطينيّة، أنّه طالما بقوا تحت الاحتلال الإسرائيليّ، وطالما بقوا منفيّين خارج أرضهم «فالنكبة مستمرّة». يرى الكثيرون أيضًا أنّ الخامس عشر من مايو/أيّار يوم للتأكيد على صمود الفلسطينيّين، على الرغم من القمع المستمرّ الّذي يواجهونه.
يحيي الكثير من الفلسطينيّين ومؤيّديهم، في عام 2023، فعاليّات يوم النكبة في الأمم المتّحدة، وفي الولايات المتّحدة، وحول العالم، وهو ما يعدّ بمثابة اعتراف بنضالهم الطويل والمستمرّ.
المصدر: عرب 48