77 عاما على قرار التقسيم: قبل التصويت في المجلس العام 1947 (32/15)
بعد فشل اللجنة الفرعية الثانية للجنة المخصصة بتمرير مشروع الدولة الواحدة في فلسطين، أو على الأقل تحويل الأمر إلى محكمة العدل الدولية، بقي التقسيم هو المشروع الوحيد الذي ما زال على قيد الحياة، خاصّة بعد سحب الاعتراضات الأميركية على حدود الدولتين، واقتراح ضم النقب إلى الدولة العربية. كانت اللجنة الفرعية الأولى قد وصلت إلى اقتراحها الذي ستعرضه على اللجنة المخصصة، بعد أن استطاعت "تذليل" كل العقبات التي واجهت مشروع التقسيم، فقد أصبح الآن واضحًا وضوح الشمس أن بريطانيا لن تتعاون مع الأمم المتحدة في تنفيذ التقسيم، خاصة بعد أن أبلغ السير ألكسندر كادوغان، ممثل بريطانيا الدائم في مجلس الأمن، الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1947، إن الحكومة البريطانية لن تستخدم جنودها في فرض التقسيم، وأنها قررت مغادرة البلاد نهائيًا في أول آب / أغسطس 1948، ثم عادت الحكومة البريطانية وأبلغت الأمم المتحدة بأنها ستغادر البلاد في 15 أيار/ مايو 1948. لذلك رأت اللجنة الفرعية الأولى على أن على بريطانيا الانسحاب من فلسطين في الأول من أيار/ مايو، وتأسيس الدولتين العربية واليهودية بعدها بشهرين.
بعد انسحاب أميركا من كل مواقفها السابقة بخصوص الحدود، تكاملت الخطة وأصبحت جاهزة لطرحها للتصويت داخل اللجنة المخصصة للتصديق عليها، لكن قبل ذلك دعت هذه ممثل الجمعية العربية العليا وممثل الوكالة الصهيونية إلى المثول أمامها وإلقاء خطابهما الأخير أمام أعضاء اللجنة. كان هذا في 24 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1947.
موشي شرتوك أمام اللجنة المخصصة
أعلن شرتوك في بداية كلمته عن استعداد الوكالة الصهيونية لقبول قرار التقسيم من أجل مساعدة الأمم المتحدة في الوصول إلى حلّ للمعضلة الفلسطينية. ثم قال إن اليهود في فلسطين لديهم جذور عميقة في الأرض، كما لدى جيرانهم العرب، لذلك هم يهاجرون إلى فلسطين من أجل الذهاب إلى وطنهم القومي، وكل من يحاول أن يشكك في هذا الأمر، ويدعي أن لهم مآرب أخرى، إنما هو المتهم بذلك. وتحدث عن الاعتراف الدولي الذي حصل عليه اليهود في صكّ الانتداب، وأن هذا الاعتراف إنما يضم منطقة شرق الأردن أيضًا، ولكن الوكالة الصهيونية تعلن أنها تقبل التنازل عن أغلبية الأرض التي وعدت بها، من أجل تسهيل المهمة على الأمم المتحدة.
قال شرتوك في ردّه على المندوب المصري الذي قال إن إقامة دولة عربية واحدة، سيكون من شأنه تسهيل تعامل السلطات مع الأقلية الإرهابية في فلسطين، إن السلطة العربية سيكون عليها أن تواجه كل رجل يهودي وامرأة يهودية من سكان فلسطين، وليس حاملي السلاح فقط. ثم قال إن أقلية عربية كبيرة داخل دولة يهودية، يمكنها العيش بكرامة بسبب البحر العربي الذي يحيط بفلسطين، لكن أقلية يهودية داخل الدولة العربية ستكون بلا ضمانة تحمي السكان اليهود، لذلك فإن الوكالة الصهيونية ترفض حل الدولة الواحدة، وترفض أيضًا أن لا تقوم الأمم المتحدة بإصدار أي قرار بشأن الحل الذي سيكون في فلسطين، لأن من شأن هذا أن يشعل حربًا بلا هوادة بين اليهود والعرب، بعد أن تنسحب بريطانيا من فلسطين. وهذا يعني أن الإمكانية الوحيدة العملية والمقبولة هي التقسيم، الذي يضمن أن يكون 700 ألف يهودي أغلبية في دولة واحدة في العالم، حيث لا أمل لهم أن يكونوا أغلبية في أي دولة أخرى في العالم، ومن غير المعقول أن يجد العالم المتحضر نفسه غير قادر على منح اليهود هذا القدر الضئيل من العدل.
جمال الحسيني أمام اللجنة المخصصة
بعد انتهاء شرتوك من كلمته، اعتلى جمال الحسيني المنصة، وقام بتوضيح موقف اللجنة العربية العليا. ابتدأ الحسيني كلمته بالحديث عن الحقوق التاريخية والإنسانية والسياسية للفلسطينيين في وطنهم، وفي تشكيل دولتهم، ثم أشار إلى أن ميثاق الأمم المتحدة، كما ميثاق عصبة الأمم قبلها، لا يحتويان على أي بند يمكّن أقلية سكانية من فرض إرادتها على الأغلبية، كما يحدث الآن في فلسطين.
بعدها تطرق الحسيني إلى اتفاق الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على تأييد التقسيم، رغم أنهما اختلفتا على كل شيء آخر في الأمم المتحدة، والسبب في ذلك هو المصلحة الضيقة لكل من هاتين الدولتين، فالأولى تريد أن ترضي الناخبين اليهود في الولايات المتحدة، أما الثانية فتريد أن يتدفق عشرات الآلاف من اليهود الذين يحملون الأفكار الاشتراكية، ليساهموا في نشر نظرياتها وخدمة مصالحها السياسية.
بعدها تحدث الحسيني عن أخطار تنفيذ التقسيم، والذي يحمل في طياته غبنًا بحق العرب، حيث لا يمكن التضحية بحقوقهم في أرضهم، من أجل تنفيذ مآرب مجموعة أخرى، وفلسطين هي قلب العالم العربي، وسيقوم كل عربي بالدفاع عنها كما لو أنها وطنه الخاص. وأشار إلى أن فرض التقسيم سيقذف بالمنطقة إلى حمام دمّ، وقال إنه لا يقصد التهديد، ولكنه يلفت نظر الأمم المتحدة، إلا أنها ستكون مسؤولة عن ردود الفعل التي ستنتجها السياسة التي ستنفذها في فلسطين. من الناحية الأخرى قال الحسيني إن مشاركة الأمم المتحدة في إقامة دولة واحدة ديموقراطية، كما يقترح العرب، سيؤدي إلى الازدهار والسلام للجميع، كالازدهار الذي حصل عليه اليهود في الأندلس في كنف الحكم العربي.
التصويت على التقسيم في اللجنة المخصصة
في اليوم التالي لخطابي شرتوك والحسيني، أي في 25 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1947، اجتمعت اللجنة المخصصة للتصويت على اقتراح اللجنة الفرعية الأولى بخصوص التقسيم. حاول العرب بكل ما أوتوا من قوة، أن يغيروا موقف بعض الدول مثل كوستاريكا، وهاييتي وغيرهما. من ناحية أخرى حاولوا تأجيل التصويت على اقتراحات لجنة التقسيم بعد سقوط كل اقتراحاتهم الذين قدموها في اللجنة الفرعية الثانية، خاصة تحويل القضية إلى محكمة العدل الدولية، ومشروع الدولة الواحدة، لكن "إيفات" رئيس اللجنة المخصصة، ورئيس اللجنة الفرعية الثالثة التي كان هدفها التوفيق بين العرب واليهود، كان قد أعلن في اليوم الذي سبق التصويت، بأن مهمة اللجنة الفرعية قد فشلت، ولا مجال للمصالحة بين الطرفين، ولذلك يجب أن نطرح كافة الاقتراحات للتصويت العلني داخل اللجنة المخصصة.
تم التصويت على اقتراح اللجنة الفرعية الأولى بخصوص التقسيم، ونجح الاقتراح بأغلبية 25 صوتًا ضد 13 صوتًا، وامتناع 17 مندوبًا عن التصويت، وتغيب دولتين. الدول التي أيدت التقسيم هي: الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، وروسيا البيضاء (بيلاروس)، وأوكرانيا، وبولندا، وتشيكوسلوفاكيا، والسويد، والنرويج، والدنمارك، وكندا، وأستراليا، وأيسلندا، وجنوب أفريقيا، وبوليفيا، والبرازيل، وجمهورية الدومينيكان، والإكوادور، وأورغواي، ونيكاراغوا، وفنزويلا، وبنما، وكوستاريكا، والبيرو، وتشيلي، وغواتيمالا.
أما الدول التي عارضت التقسيم فهي: سوريا، ومصر، ولبنان، والسعودية، واليمن، والعراق، وباكستان، وإيران، وتركيا، وأفغانستان، والهند، وسيام، وكوبا.
الدول التي امتنعت عن التصويت هي: بريطانيا، ونيوزيلندا، ويوغوسلافيا، واليونان، وهولندا، وبلجيكا، وفرنسا، ولوكسمبورغ، والمكسيك، وكولومبيا، وهاييتي، والسلفادور، وهندوراس، وليبيريا، والحبشة (إثيوبيا)، والصين، والأرجنتين. أما بارغواي والفلبين فقد اختارتا التغيب عن التصويت.
افتتح إيفات التصويت لصالح التقسيم من على كرسي الرئاسة، وبحماسة متناهية من أجل تشجيع الآخرين على تأييده. نذكر هذا لان إيفات لعب دورًا تاريخيًا في صالح الصهيونية بتأييده المتحمس للتقسيم بسرية متناهية حافظ عليها حتى وصلت اللجنة إلى مرحلة التصويت، مما جعل الدول العربية خلال عمل اللجنة، أن تضع ثقتها فيه، وتوافق على مسيرته داخل اللجنة، والتي عمل خلالها على استعمال الحيل والوسائل الملتوية من أجل الوصول إلى اللحظة التي كان يتوق لها طوال رئاسته للجنة المخصصة.
كان اقتراحه لتشكيل لجان فرعية لمناقشة مشروع الأغلبية ومشروع الأقلية بشكل منفرد، هو بحدّ ذاته حيلة من أجل مناقشة التقسيم بدون "إزعاج" من العرب. وعندما وضع نفسه على رئاسة اللجنة الفرعية الثالثة والتي كانت تهدف إلى إيجاد طريقة للتوفيق بين العرب واليهود، إنما أراد من ذلك أن يلغي هذه الإمكانية، حتى يصل إلى نتيجة مفادها أن التصويت أمر ضروري وفوري.
ليس هذا فحسب، بل إن بعض المؤرخين يؤكد أن إصراره على التصويت على التقسيم في تلك الفترة، ساهم في انتهاز فرصة تاريخيّة اتفقت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على دعم التقسيم، الأمر الذي كان من المستحيل أن يحدث بعد عدة أشهر من تشرين الثاني / نوفمبر 1947، بسبب احتدام الحرب الباردة بينهما، أي أن تأجيل التصويت في الأمم المتحدة إلى الدورة القادمة، كان من شأنه أن يقضي على آمال الصهيونية في تأييد الأمم المتحدة للدولة اليهودية، وربما كانت "نافذة الفرصة" في إقامة الدولة اليهودية ستغلق في وجه الحركة الصهيونية إلى الأبد، كما أكد على ذلك وزير الخارجية الأميركي بعد زمن طويل، ووافق على هذا التقدير موشي شاريت رئيس الدائرة السياسية للوكالة الصهيونية.
العرب ينشطون والتقسيم في خطر
في اليوم التالي للتصويت على التقسيم في اللجنة الفرعية الأولى، أي في 26 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1947، أنهت اللجنة المخصصة عملها، وأصبح أعضاؤها يشكلون الهيئة العامة للأمم المتحدة، والتي اجتمعت في الساعة 11:00 صباحًا من أجل مناقشة واتخاذ قرار نهائي بخصوص اقتراح التقسيم. كان التصويت على القرار سيبدأ فورًا بعد إتمام النقاش، الذي افتتح بتقرير قدمه ممثل أيسلندا عن عمل اللجنة المخصصة، بعد أن غادر إيفات الأمم المتحدة عائدًا إلى بلده. ثم تحدث ممثل السويد، الذي أطال الحديث، ولكنه أعلن أن بلاده ستصوت لصالح التقسيم، ثم تلاه مندوب الفلبين الذي فاجأ الجميع باعتراض بلاده على التقسيم؛ لأن "المسألة أخلاقية في المكان الأول"، رغم أنه كان يعتبر من مؤيدي التقسيم كون بلاده متعلقة بشكل كبير بالمساعدات الأميركية بعد الحرب الكونية الثانية. بعدها كانت الكلمة لليمن، والتي عارضت التقسيم كما هو متوقع، ثم تبعتها كندا التي صوتت بدون تردد لصالح التقسيم، ثم جاءت اليونان حيث عارضت التقسيم من على منصة الأمم المتحدة، رغم أنها كانت تتلقى مساعدات من الولايات المتحدة.
كانت تعليمات ترومان لفريق بلاده في الأمم المتحدة، هو التصويت لصالح التقسيم، بل وحثّ باقي الدول على ذلك، ولكن بشرط أن لا تقوم الولايات المتحدة بالضغط على أي دولة للعدول عن موقفها من التقسيم. كانت التعليمات واضحة وتلقاها الوفد عن طريق نائب وزير الخارجية، الذي اجتمع مع ترومان في البيت الأبيض، في 24 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1947، ولهذا تحدث مندوبو الدول المرتبطة بالولايات المتحدة بصراحة وبدون أي ضغوط تطالبهم بتغيير موقفهم من التقسيم. بعد الفلبين واليونان أيدت البرازيل التقسيم، وعارضته إيران ومصر. أما مندوب بريطانيا فأعلن أن بلاده ستمتنع عن التصويت، وتلاه ممثل الولايات المتحدة الذي أعلن تأييد بلاده القاطع للتقسيم.
انتهت الجلسة الصباحية وسط ذهول وخيبة أمل ممثلي الحركة الصهيونية، الذين أصابهم الرعب من كلمتي مندوبي الفلبين واليونان، حيث إن التقسيم ورغم كونه حصل على الأغلبية داخل اللجنة المخصصة، إلا أن تمرير القرار يحتاج الآن، داخل الهيئة العامة، إلى ثلثي الأصوات. كانت الأصوات المضمونة حسب حسابات الصهاينة عددها 30 دولة، مما يعني أن معارضة 15 دولة كانت تعني إسقاط مشروع التقسيم حتى إشعار آخر، وبذلك تذهب جهودهم طوال عشرات السنين عبثًا. من ناحية أخرى كانت الأصوات المضمونة لصالح معارضة التقسيم عددها عشر دول على الأقل، وهي الدول العربية الست، بالإضافة إلى باكستان وإيران وتركيا وأفغانستان. ولما كانت كوبا تعارض التقسيم بخلاف دول أميركا اللاتينية الأخرى، ومن الممكن أن تصوت يوغوسلافيا ضده، كونها تؤيد مشروع الدولة الواحدة، تصبح الأصوات المضمونة 12، ومع إضافة اليونان والفلبين يصبح مشروع التقسيم في خطر كبير، خاصة وأن المندوبين العرب كانوا يضغطون على بعض البلدان من أجل تغيير موقفها من التقسيم.
مثال على ذلك، أن المندوب السوري فارس الخوري، أبلغ ممثل غواتيمالا غراندوس بأنهم، أي العرب، يضغطون على رئيس دولته، من أجل تغيير موقفه من التقسيم. كذلك عرضوا على كوستاريكا أن يدعموها من أجل مقعد في مجلس وصاية الأمم المتحدة، إذا صوتت ضد التقسيم. هذا الضغط أدّى بدولة هاييتي بإعلان موقفها ضد التقسيم في الجلسة الثانية المسائية في نفس يوم الأربعاء الموافق 26 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1947.
خطة صهيونية من أجل إنقاذ مشروع التقسيم
بعد إعلان هاييتي عن معارضتها للتقسيم، أصبحت يد العرب هي العليا، وسيسقط التقسيم لا محالة، كما اعتقد العرب وحلفاؤهم القلائل، فالتصويت سيتم في نفس هذا الليلة، ولا حيلة لدى مؤيدي التقسيم إلا قبول النتيجة المتوقعة، بعدم إمكانية الحصول على ثلثي الأصوات في المجلس العام.
كان الصهاينة إيمانويل نيومان، والحاخام آبا هيلل سيلفر، وموشي شرتوك متواجدين في فلاشينغ ميدوز حيث سيتم التصويت، وكانوا متفائلين حتى مرّ بجانبهم رئيس جلسة الأمم المتحدة اوسوولدو إيرينيا البرازيلي والمؤيد للتقسيم. قال لهم إيرينيا أن اليونان وهاييتي والفلبين قد غيروا رأيهم بخصوص التقسيم. واقترب منهم مندوب من أميركا اللاتينية مؤيداً للتقسيم وقال لهم: "اذهبوا إلى بيوتكم، لأنكم في يأس من نتيجة التصويت". كان مندوبو الدول العربية مبتهجين؛ لأن القرار التاريخيّ سيكون في صالح الدولة الفلسطينية الواحدة.
قرر موشي شيرتوك بعد التشاور مع زملائه تأجيل التصويت مهما كلّف الأمر. كان عيد الشكر الذي يحتفل فيه الشعب الأميركي يصادف اليوم التالي للتصويت. في هذا العيد لن تعقد أيّة جلسة، مما يعني إمكانية حصولهم على مهلة يومين، إذا أُجِّل التصويت، وهذا سيساعدهم حتمًا في تغيير النتيجة. توجه آبا إيبان إلى ممثل اورغواي رودريجيز فابريجات وطلب منه الإسهاب في خطابه، قدر الإمكان، في الجلسة المسائية من أجل إطالتها مما سيضطر الرئيس المؤيد للتقسيم بأن يؤجل التصويت إلى ما بعد عيد الشكر. ليس هذا فحسب، بل توجه ايمانويل نيومان في استراحة الغذاء بين الجلستين إلى الجنرال هيلدرينج عضو الوفد الأميركي، وشرح له الوضع الحرج، وطالبه بإقناع الوفد الأميركي بطلب إلغاء الجلسة الليلية على أساس أن الليلة هي عشية عيد الشكر.
كان خطاب فابريجات طويلًا إلى درجة أنه أثار غضب مندوبي الدول العربية، مما تسبب في إطالة خطابات السعودية وسوريا والعراق ولبنان. كانت هذه الخطابات الطويلة في صالح الفكرة الصهيونية، حيث إن رئيس الجلسة البرازيلي أعلن أن هناك أكثر من أحد عشر متحدثًا مسجلًا على قائمة الخطباء، وبعدها يجب أن يتم التصويت على اقتراح التقسيم، وسيكون بعدها حفل ختامي لهذه الجلسة، كما اتّبعت العادة، حيث سيتحدث بعض المندوبين، ومنهم الأمين العام للأمم المتحدة، لذلك "سنقوم الآن بالتصويت على الاقتراح بعقد جلسة ليلية". رفض الاقتراح بأغلبية 24 ضد 21، لذلك أعلن الرئيس أن "اجتماعنا القادم سيكون يوم الجمعة في تمام الساعة الحادية عشر صباحًا". وأغلقت الجلسة في تمام الساعة 18:20.
عمل صهيوني حثيث بمساعدة أميركية
في يوم الجمعة، قدم المندوب الفرنسي طلبًا يدعو فيه إلى تأجيل التصويت لمدة يوم آخر، لمعرفة إذا كان بالإمكان تحقيق تقدم في التوفيق بين العرب واليهود. تمت الموافقة على الطلب، وذلك مكّن الصهاينة أن يستفيدوا من يوم آخر، لإقناع بعض المعارضين لتغيير موقفهم إلى الامتناع أو التأييد، وإقناع الممتنعين بتأييد مشروع التقسيم.
أصبحت الفلبين وهاييتي وليبيريا في مرمى الضغوطات الصهيونية من أجل تغيير موقفهم من التقسيم، حيث إن هاييتي كانت قد امتنعت في اللجنة المخصصة، وأعلنت معارضتها للتقسيم في الجمعية العامة، وكذلك فعلت الفلبين التي لم تشارك بالتصويت في اللجنة المخصصة، أما ليبيريا فكانت قد امتنعت في اللجنة المخصصة، وعليها الآن تغيير موقفها لصالح التقسيم. كانت اليونان من الدول التي عارضت التقسيم في اللجنة المخصصة، وما زالت تصر على موقفها المعارض، بسبب أنها تلقت وعودًا من الدول العربية بدعمها الكامل بأي مسألة تتعلق باليونان في داخل أروقة الأمم المتحدة.
قام الوفد الصهيوني بالاجتماع مع عشرات وفود الدول التي ستصوت على التقسيم. اجتمع "موشي شرتوك" مع مندوب الحبشة (إثيوبيا)، وذكّره بموقف الصحف الصهيونية التي أيدت الحبشة في حربها مع إيطاليا، وإن طلب القنصل الإيطالي في القدس بتغيير هذا الموقف، رفض من قبل الوكالة الصهيونية. حثّ شرتوك المندوب الحبشي إلى الامتناع عن التصويت، مما أدى إلى تلقيه وعدًا صريحًا بأن الحبشة ستمتنع عن تأييد التقسيم.
كان الإنجاز الأكبر للوكالة الصهيونية في اليومين الإضافيين، هو تجنيد الولايات المتحدة لصالح الضغط على الدول الأخرى من أجل التصويت لصالح التقسيم. تدخل الرئيس هاري ترومان مرة أخرى لصالح مصوتيه اليهود في أميركا وأعطى الأوامر بالضغط على الدول الأخرى بالتصويت لصالح التقسيم، مع أن قراره الأول كان بأن لا تضغط أميركا على الآخرين في مسألة التصويت. قام مستشاره ديفيد نيلز بحثّ نائب رئيس الوفد الأميركي هيرشيل جونسون بالتأثير على دول أخرى. على إثر ذلك قام الجنرال هيلدرينج وإلينور روزفلت بالتوجه إلى الوفود الأخرى، وقالوا لهم إن الرئيس شخصيًا يطلب منكم تأييد التقسيم. "تحسنت العلاقات الأميركية – الصهيونية في التوقيت الصحيح، خلال عيد الشكر، بأمر من الرئيس، الذي غضب وقرر أن يضع كل وزنه في صالح التصويت للتقسيم. منذ الآن تدخل الأميركان وقلبوا الموازين"، كما قال مايكل كومي مدير الوكالة الصهيونية في نيويورك.
أما العرب، فقاموا بالاحتجاج على التصرف الأميركي أمام "لوي هيندرسون"، الذي لم تكن لديه حيلة بسبب تدخل الرئيس شخصيًا في الأمر".
الخطة تنجح في إحياء مشروع التقسيم
توجهت الحركة الصهيونية إلى شخص أميركي يدعى جوليوس إدلشتاين، كان قد عمل سابقًا في الفلبين، ويعتبر صديقًا للرئيس الفلبيني. كان هذا الشخص متواجداً في لندن، ولكن الوكالة كانت قد وصلت إليه عن طريق وزارة الخارجية الأميركية. اتصل فيه ممثل الوكالة الصهيونية في لندن جوزيف لينتون، وطالبه بالاتصال برئيس الفلبين مانويل روكساس وإقناعه بضرورة التصويت لصالح التقسيم. ثم اتصلت فيه وزارة الخارجية الأميركية، التي أبلغته أن الفشل في دعم موقف أميركا بشأن المسألة الفلسطينية سيؤثر سلبيًا على العلاقات بين البلدين. ثم تلقى الرئيس الفلبيني برقية من القاضيين الأميركيين فيليكس فرانكفورتر وفرانك مورفي يطالبونه بالتصويت لصالح التقسيم، وإلا فإن ذلك سيؤثر على صداقة الولايات المتحدة مع الفلبين.
تلقى الرئيس الفلبيني برقية من عشرة أعضاء في مجلس الشيوخ، ثم برقية من السناتور روبرت ف. فاغنر من نيويورك، مع توقيع خمسة وعشرين عضوًا في مجلس الشيوخ. ثم مورس ضغط شديد على سفير الفلبين في الولايات المتحدة، حيث تلقى طلبًا شخصيًا من البيت الأبيض للتصويت مع التقسيم، وذلك عن طريق سكرتير الرئيس ترومان. لم يبقَ للفلبين أي مناص من تأييد التقسيم، بعد كل هذه الضغوطات.
بالنسبة لليبيريا، طلبت الحركة الصهيونية من وزير الخارجية الأميركي السابق إدوارد ستاتينيوس وطلبوا منه إقناع ليبيريا بالعدول عن موقفها السلبي من التقسيم. اتصل هذا بصديقه هارفي فايرستون صاحب مزارع مطاط كبيرة جدًا في ليبيريا، وطلب منه إقناع الرئيس الليبيري ويليام توبمان بتغيير موقف بلاده. قام فايرستون بالاتصال بالرئيس الليبيري وإبلاغه بأن تصويت حكومته ضد التقسيم، من شأنه أن يلغي كل خطط فايرستون بتوسيع مشاريعه داخل ليبيريا. كان هذا كافيًا لتغيير موقف الدولة الأفريقية.
كانت هاييتي تشترط في التصويت لصالح التقسيم بالحصول على قرض قدره خمسين مليون دولار من الولايات المتحدة. اتصل ناحوم جولدمان من الوكالة الصهيونية بالمساعد الشخصي السابق لوزير الخارجية الأميركي، وطلب منه إقناع رئيس هاييتي دوميريس أستيما بالتصويت مع التقسيم. بعد قبوله الاتصال، أعلن أن الأوامر أعطيت لوفد هاييتي بتأييد التقسيم. كان القنصل الأميركي في هاييتي روبرت مكبريد قد اتصل برئيس هاييتي وقال له بأن الأفضل لبلاده تغيير تصويتها لصالح التقسيم، وهذه "تعليمات تلقيتها من الرئيس ترومان شخصيًا".
استلم سفير الصين في واشنطن، مذكرة تحتوي على تحذير من المليونير اليهودي برنارد باروخ، عن طريق سفير الولايات المتحدة السابق في الصين ويليام بوليت، يبلغه فيها أن الصين لن تتلقى مساعدات أميركية إذا صوتت ضد التقسيم، مما أدى إلى امتناع الصين عن التصويت على التقسيم بادعاء وجود نسبة كبيرة من المسلمين فيها.
بالإضافة إلى كل هذا، عملت الوكالة الصهيونية على دول أميركا اللاتينية جمعاء من أجل أن تصوت هذه لصالح التقسيم، إذ إنها تشكل أكثر من ثلث المجلس العام، وقد نجحت في ذلك، حيث صوتت 13 دولة من أميركا اللاتينية مع التقسيم. وامتنعت ست دول، وعارضت دولة واحدة فقط ذلك، وهي كوبا.
رغم سياسة عدم التدخل التي أعلنها الرئيس ترومان، إلا أن كل الدلائل تشير إلى أنه كان يعمل من خلال آخرين، حيث إن المسؤولين الأميركيين كانوا يمارسون كافة الضغوطات المباشرة وغير المباشرة على الدول المعنية، خارج نطاق الدول الإسلامية، والتي كانت تعارض التقسيم، وبواسطة وسطاء إذا لزم الأمر.
لم تنجح الضغوطات الشديدة التي مورست على كوبا واليونان اللتين بقيتا على موقفهما الثابت ضد التقسيم، ولكنها نجحت مع إكوادور وهندوراس وباراغواي، بالإضافة إلى الصين وليبيريا وهاييتي والفلبين.
لم يبق الآن إلا إقناع فرنسا وبلجيكا بالتصويت لصالح التقسيم، بدل الامتناع الذي حصل في اللجنة المخصصة. بالنسبة لبلجيكا، تمت ممارسة الضغط عن طريق د. حاييم فرلمان المحاضر في جامعة بروكسل، الذي اتصل بصديقه الذي يشغل منصب سفير بلجيكا في الأمم المتحدة، وعملوا معًا على أوساط بلجيكية هامة من أجل إقناع الوفد البلجيكي بالتصويت لصالح التقسيم، ونجح الأمر. أما فرنسا فساهم في إقناعها آبا ايبين وموشي سني الذين أرسلا برقية موقعة من حاييم وايزمان إلى رئيس الوزراء الفرنسي السابق، اليهودي ليون بلوم، تطلب منه التصويت مع التقسيم من أجل التاريخ ومكانة فرنسا العالمية. في نهاية الأمر صوتت فرنسا لصالح التقسيم.
بعد يومين من العمل الصهيوني الدؤوب على إقناع الدول المذكورة أعلاه، عاد مشروع التقسيم إلى الحياة، وأصبحت كفة الميزان ترجح لصالح حصول التقسيم على أغلبية الثلثين في المجلس العام.
المصدر: عرب 48