تروث سوشيال والثورة الرقمية المضادة: لماذا يسعى دونالد ترامب لإنشاء إمبراطورية تواصل اجتماعي؟

في ظل التحولات السياسية والرقمية التي يشهدها العالم، لم يعد التواصل الاجتماعي مجرد أداة ترفيهية، بل أصبح ساحة معركة رئيسية في الصراع السياسي. يأتي إطلاق منصة تروث سوشيال على يد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كأبرز دليل على هذا التطور. هذه الخطوة لم تكن مفاجئة، بل كانت رداً مباشراً على حظر حساباته من قبل عمالقة التكنولوجيا مثل تويتر وفيسبوك ويوتيوب في يناير 2021، بعد اتهامه بتحريض أنصاره على اقتحام مبنى الكابيتول.
🛑 تروث سوشيال: الرد على “استبداد عمالقة التكنولوجيا”
أعلنت “مجموعة ترامب للإعلام والتكنولوجيا” (TMTG) عن دمج يهدف إلى تأسيس منصة إعلامية ضخمة يرأسها ترامب، وتهدف بشكل صريح إلى أن تكون “منافساً لاتحاد وسائل الإعلام الليبرالي” الذي يتهمه بالتحيز.
الهدف السياسي والأيديولوجي
- مواجهة الرقابة: يرى ترامب أن هذه المنصات مارست شكلاً من أشكال “الاستبداد” عندما أسكتت صوته، مشيراً إلى أن هذه الشركات سمحت لـ**”طالبان”** بالحضور الكبير على منصاتها بينما قامت بحظر رئيس أمريكي منتخب.
- الحرية والمنافسة: المنصة، التي تعني حرفياً “الحقيقة الاجتماعية”، هي محاولة لخلق سوق حقيقية للأفكار بعيداً عن الاحتكار المفروض من قبل المنصات الكبرى.
الميزات والجدول الزمني
جاء إطلاق تروث سوشيال بعد أشهر من التلميحات والمحاولات الفاشلة للتواصل عبر الإنترنت، بما في ذلك إطلاق مدونة احترافية سُجلت لها معدلات قراءة منخفضة وتم إغلاقها بسرعة.
- الإطلاق: كان من المقرر إطلاق النسخة التجريبية في نوفمبر، وأن تصبح المنصة متاحة أمام العموم في الربع الأول من العام التالي.
- النموذج: منصة “تروث سوشيال” هي المكون الأول ضمن إمبراطورية TMTG، التي تسعى لتوفير بديل كامل للخدمات الإعلامية.
📱 محاولات سابقة: الطريق إلى “تروث سوشيال”
لم تكن “تروث سوشيال” المحاولة الأولى لترامب وفريقه لإنشاء بديل إعلامي. فقد أطلقوا قبلها منصات ومشاريع أخرى:
- منصة “جيتر” (GETTR)
- الإطلاق: أُطلقت المنصة بواسطة فريق ترامب السابق بعد أشهر قليلة من حظره.
- المهمة: أعلنت أن مهمتها هي محاربة “ثقافة الإلغاء”، وتعزيز الحس العام، والدفاع عن حرية التعبير.
- التشابه مع تويتر: كانت واجهة المستخدم الخاصة بـ”جيتر” مشابهة بشكل كبير لواجهة تويتر، حتى أن الاسم مُستلهم من عبارة “نصبح معاً” (Getting together). وعلى الرغم من أن ترامب لم يكن مشاركاً بشكل مباشر في إطلاقها، إلا أن مستشاره السابق كان يأمل انضمامه.
- “من مكتب دونالد ترامب” (From the Desk of Donald J. Trump)
- النموذج: لم تكن هذه منصة تواصل اجتماعي بالمعنى الكامل، بل كانت أقرب إلى مجموعة بيانات صحافية مُنظمة على موقع إلكتروني.
- التفاعل المحدود: كان الموقع يسمح للزوار بالإعجاب بالرسائل وإعادة نشرها على فيسبوك وتويتر، ولكنه لم يسمح بالتعليق أو التفاعل مع المنشورات، مما قلل من قيمته كأداة تواصل ثنائية الاتجاه، وسجل معدلات قراءة متدنية أدت لإغلاقه السريع.
💥 أبعاد الصراع الرقمي
لم تكن قضية ترامب مجرد خلاف شخصي، بل كشفت عن الأثر العميق والسيطرة التي تمارسها شركات التكنولوجيا الكبرى على الخطاب السياسي.
السيطرة والتأثير
- تويتر كمنبر رسمي: قبل الحظر، كان استخدام ترامب لمواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً تويتر، من أبرز الظواهر السياسية، حيث نشر حوالي 57 ألف تغريدة. حتى أن البيت الأبيض اعتبر تغريداته “تصريحات رسمية”.
- تفاقم المعلومات المضللة: بعد خسارة 2020، ساهم استخدامه للمنصات في التشكيك بنتائج الانتخابات، ما قاد لأحداث عنف. وفي المقابل، أظهرت الدراسات انخفاضاً ملحوظاً في المعلومات المضللة المتعلقة بالانتخابات في الأسبوع الذي تلى حظره.
مصير الحظر والعودة
تفاوتت سياسات المنصات تجاه ترامب:
- تويتر: تم حظره نهائيًا، لكن إيلون ماسك أعاد تفعيل حسابه في نوفمبر 2022 بعد شرائه للشركة، رغم أن ترامب أعلن تفضيله لـ”تروث سوشيال”.
- فيسبوك وإنستجرام: مددت حظره لمدة عامين، قبل أن تعيد ميتا تفعيل حساباته في فبراير 2023 بعد أن رأت أن “خطر السلامة العامة تراجع”.
- يوتيوب و Twitch: تم تعليق حساباته في يناير 2021 لأسباب مماثلة، وأُعيد تفعيلها لاحقاً في 2023 و 2024 على التوالي.
- سناب شات: لا تزال المنصة الوحيدة التي لم تعد حساب ترامب حتى عام 2025.
📈 استراتيجية المستقبل: التكيف والمنافسة
في حملاته اللاحقة، أظهر ترامب وفريقه الرقمي قدرة على التكيف باستخدام أدوات جديدة ومثيرة للجدل:
- الإبداع الجدلي: لجأ فريقه إلى نشر محتوى جدلي، وصور ساخرة، وتوليدات بالذكاء الاصطناعي (AI)، مما أثار انتقادات لتصويره بعض الفئات بصور “غير إنسانية”.
- التنويع: توسع ترامب ليشمل منصات بديلة ومنافسة أخرى:
- Rumble: منصة استضافة فيديو انضم إليها في 2021، واستخدمها لبث تجمعاته، كما قدمت خدمات سحابية لـ”تروث سوشيال”.
- TikTok: على الرغم من تهديده السابق بحظرها، نشر ترامب أول محتوى له عليها في يونيو 2024.
- Bluesky: في أكتوبر 2025، بدأت وكالات من إدارة ترامب بالنشر على هذه المنصة، مؤكدة على ضرورة استخدام جميع قنوات التواصل.
🔚 خلاصة القول
إن إطلاق “تروث سوشيال” ومحاولات ترامب المتكررة لإنشاء مساحته الرقمية الخاصة يعكس تحولاً جذرياً في المشهد الإعلامي الأمريكي؛ فبدلاً من الالتزام بقواعد عمالقة التكنولوجيا، اختار ترامب نهج الثورة المضادة الرقمية، مسلّحاً بشبكة إعلامية تهدف إلى إعادة توجيه الخطاب السياسي نحو قاعدته الشعبية وتوفير ملاذ لهم بعيداً عن الرقابة المفروضة. هذا الصراع يشير إلى أن مستقبل التواصل السياسي لن يعتمد فقط على المنصات القائمة، بل على من يمتلك القدرة على بناء المنصة الخاصة به والسيطرة على روايته.

