شهدت السنوات الأخيرة صعودًا ملحوظًا في شعبية نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية، خاصةً بعد الكشف عن “شات جي بي تي” في نهاية عام 2022. ومنذ ذلك الحين، تسعى الشركات جاهدةً لتعزيز قدرات هذه النماذج وتطبيقها في مختلف المجالات. ولكن، بقي السؤال مطروحًا حول قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم العالم الحقيقي والتفاعل معه، وليس مجرد وصفه. هنا تظهر أهمية نماذج العالم، التي تعد تطورًا نوعيًا في هذا المجال.
تعتبر نماذج العالم أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة مصممة لفهم التفاعلات والتوقعات في بيئات محددة، وذلك من خلال محاكاة قوانين الفيزياء وآلية عمل العالم. وهي تتجاوز قدرات النماذج التقليدية في توليد النصوص والصور، وتقدم إمكانيات أكثر تعقيدًا وواقعية. وقد أثار قرار يان ليكون، أحد رواد الذكاء الاصطناعي ورئيس الأبحاث السابق في “ميتا”، بترك منصبه وتأسيس شركة متخصصة في تطوير هذه النماذج، اهتمامًا واسعًا بها.
ما هي نماذج العالم؟
يكمن مفهوم نماذج العالم في قدرة الأنظمة على بناء تمثيل داخلي للبيئة المحيطة، مما يسمح لها بالتنبؤ بالنتائج المحتملة لأفعالها. هذا يختلف عن النماذج اللغوية التي تعتمد على تحليل الأنماط في البيانات النصية. يمكن لهذه النماذج، على سبيل المثال، أن تساعد الروبوتات على فهم كيفية التعامل مع الأشياء دون إسقاطها أو إتلافها.
على الرغم من أن فكرة نماذج العالم ليست جديدة، إلا أن الباحثين بدأوا مؤخرًا في دمجها مع تقنيات الذكاء الاصطناعي اللغوية للاستفادة من نقاط القوة في كلا المجالين. وقد ظهر هذا المفهول لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي، ثم عاود الظهور بقوة في عام 2018، وتزايد الاهتمام به هذا العام مع استثمارات شركات رائدة مثل “إنفيديا”.
تتيح هذه النماذج توليد عوالم افتراضية تحاكي القوانين الفيزيائية الواقعية، ويمكن التحكم فيها من خلال الأوامر النصية أو الصوتية. كمثال، يمكن للمستخدم أن يطلب من النموذج إنشاء عالم يحاكي سباق الخيول من منظور الفارس، وسيقوم النموذج بتوليد بيئة تفاعلية تعرض هذا المنظور بشكل واقعي.
الاختلاف عن “شات جي بي تي”
يكمن الفرق الجوهري بين نماذج العالم والنماذج اللغوية مثل “شات جي بي تي” في طريقة عملهما. النماذج اللغوية تعتمد على التنبؤ بالكلمة أو الجملة التالية بناءً على البيانات التي تدربت عليها، دون فهم حقيقي للمعنى أو السياق. بمعنى آخر، هي تقوم بإعادة صياغة المعلومات الموجودة، وليست قادرة على إنتاج معرفة جديدة.
في المقابل، تركز نماذج العالم على التعلم والفهم العميق للمفاهيم الحقيقية. بينما قد تصف النماذج اللغوية الجاذبية بشكل سطحي، فإن نماذج العالم تصفها بناءً على فهمها للوزن والكتلة والتأثيرات الفيزيائية الأخرى. هذا الفهم يسمح لها بالتنبؤ بشكل أكثر دقة بالتغيرات التي قد تحدث في البيئة.
تعتمد نماذج العالم على التنبؤ بالتغيرات في البيئات المختلفة بناءً على مجموعة من القواعد. عندما يُطلب من “شات جي بي تي” التنبؤ بما سيحدث في حالة اختفاء الجاذبية، فإنه يعتمد على المعلومات النصية المتاحة. أما نموذج العالم، فيقوم بتوليد توقعات بناءً على فهمه العميق للجاذبية وتأثيرها على جميع جوانب الحياة.
كيف تعمل نماذج العالم؟
هناك طريقتان رئيسيتان لتدريب نماذج العالم. الأولى هي بناء العالم بشكل تدريجي أثناء تفاعل المستخدم معه، حيث يقوم النموذج بتوليد كل خطوة بناءً على الإجراءات التي يتخذها المستخدم. والثانية هي بناء العالم بأكمله مسبقًا، ثم السماح للمستخدم باستكشافه والتفاعل معه.
تعتبر الطريقة الأولى أكثر ملاءمة للتطبيقات التي تتطلب تفاعلًا مستمرًا، مثل الروبوتات. بينما تعتبر الطريقة الثانية أكثر ملاءمة للتطبيقات التي تتطلب استكشافًا شاملاً، مثل محاكاة البيئات المعقدة أو اكتشاف المناطق المجهولة.
استخدامات غير محدودة
تتجاوز استخدامات نماذج العالم مجرد الروبوتات والسيارات ذاتية القيادة. يمكن استخدامها في مجالات متنوعة مثل أتمتة العلوم، والتفاعل بين الإنسان والحاسوب، وتصميم الأدوية، والتنبؤ بالتغيرات المناخية.
ويشير الخبراء إلى أن هذه النماذج ستمكننا من بناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر ذكاءً ومرونة، وقادرة على التكيف مع البيئات المتغيرة. ومن المتوقع أن تشهد هذه التقنية تطورات كبيرة في السنوات القادمة، مما سيفتح الباب أمام تطبيقات جديدة ومبتكرة.
في المستقبل القريب، من المتوقع أن نرى المزيد من الشركات والمؤسسات تستثمر في تطوير نماذج العالم. وستركز الأبحاث على تحسين قدرة هذه النماذج على التعلم والفهم، وزيادة دقتها وواقعيتها. وسيكون من المهم مراقبة التقدم في هذا المجال، وتقييم تأثيره على مختلف جوانب حياتنا.
