مؤمن الجندي يكتب: مراد الانفراد
ذات مساء في غرفة الأخبار.. جلست على مكتبي بالجريدة التي أعمل بها، حيث ينبض العالم بأصوات الهواتف وصفير الإشعارات، متكئة على الحواسيب التي باتت وكأنها أوتار تعزف عليها أيدي المحررين.. نظرت حولي لأرى زملائي منشغلين بمتابعة الأخبار المتداولة على وكالات الأنباء ومنصات التواصل الاجتماعي، وكأنهم عازفون يتسابقون على عزف النوتة ذاتها، لكن شيئًا ما كان ينقص هذا المشهد؛ ذلك البريق الذي كان يُشعل عيون الصحفيين حين كانوا يتحدثون عن “السبق الصحفي”.
تذكرت تلك الأيام مع أستاذي الذي علمني أن الصحافة ليست مجرد نقل الأخبار، بل هي فن اكتشاف المجهول.. كان يردد دائمًا “السبق الصحفي هو روح المهنة”، ويدخل الأزقة ويجلس مع الغرباء لساعات بحثًا عن حقيقة واحدة! ففي يوم فارق، عملنا على تحقيق! ورغم الشكوك، قادني أستاذي إلى منزل بسيط حيث تحدث بحميمية مع رجل مسن، ليخرج بعد ساعات بوثائق تكشف القصة كاملة، معلمًا إيّاي أن الانفراد الحقيقي يولد بالصبر والبحث العميق والرغبة في نقل المعلومة بأمانة.
لكن الزمن تغير.. مع صعود الإنترنت، وانتشار الأخبار بسرعة البرق، أصبح السبق الصحفي عملة نادرة! باتت الصحف تتسابق لنقل ما هو متاح بالفعل، بدلًا من البحث عن ما هو مخفي! وهذا الشيء حقيقة يحزنني بشدة على مهنتي وزملائي.. أصبحنا نعيش في عصر التشابه، حيث كل وسيلة إعلامية تقدم النسخة ذاتها من القصة.
ومع ذلك، أؤمن أن الانفراد الصحفي لم يمت، بل هو ينتظر من يحييه.. يحتاج إلى قلوب شجاعة وعقول متقدة لا تخشى التعب، ولا تستسلم للإجابات السهلة! يحتاج إلى من يؤمن بأن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي رسالة تكشف الحقائق وتُعيد للناس الثقة بأن هناك من يسعى خلف الحقيقة، مهما كان الثمن.
حين غادرت غرفة الأخبار تلك الليلة، قررت أن أبحث عن ذلك الانفراد المفقود.. قررت أن أكون صوتًا في زمن الصمت، وأن أقدم شيئًا مفيدًا يُذكر لي بعد رحيلي.. وأعيد بريقًا تلاشى تحت ضغط العناوين المتكررة والشائعات المتداولة، فما زال في القلب شغف، وما زالت في الميدان قصص تستحق أن تُروى.
انتصار القلم المصري
في لحظة فارقة، كسر العزيز محمد مراد الناقد الرياضي بجريدة اليوم السابع القواعد السائدة وأعاد للصحافة الرياضية مكانتها التي افتقدتها طويلًا.. حين أعلن مراد عن انتقال عمر مرموش إلى مانشستر سيتي الإنجليزي، كان الخبر بمثابة صدمة إيجابية للجميع، خاصة بعدما سارعت الصحف الألمانية لنفيه.. لكن مراد، مسلحًا بمصداقيته وثقته بمصادره، ظل ثابتًا أمام العاصفة! خلال ساعات قليلة، انقلبت الطاولة، وأكدت كبرى الصحف العالمية صحة الخبر، ليتحول انفراد مراد إلى حديث العالم أجمع، تلك اللحظة لم تكن مجرد سبق صحفي؛ بل كانت إعلانًا جديدًا بأن الصحافة الرياضية في مصر قادرة على أن تكون في قلب الحدث، تقود المشهد بدلًا من الاكتفاء بالمتابعة والنقل المباشر، ومن هنا لابد أن أقول شكرًا مراد بكل “لغات الشكر في العالم”.
في النهاية، المصداقية هي جوهر الصحافة، والطريق الوحيد لصناعة انفراد حقيقي يترك أثرًا لا ضجيجًا.. الصحفي المتميز لا يلهث خلف “عاجل” بلا قيمة، بل يسعى وراء الحقيقة، مهما كان الطريق طويلًا.. الانفراد ليس عنوانًا لافتًا، بل رسالة عميقة تُعيد الثقة بين القارئ والصحافة، وتُثبت أن المهنة لا تزال تحترم عقل الجمهور وتقدر دورها في كشف الحقائق، لا بيع أوهام كـ“فنكوش السوشيال ميديا”.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا
المصدر: بوابة الفجر