انتخابات الرئاسة الأميركية.. سيناريو 2020 مكرر
انتزع الرئيس جو بايدن ومنافسه الرئيس الأسبق، دونالد ترامب، يوم الثلاثاء (12 آذار/ مارس الجاري)، ترشيح حزبيهما، الديمقراطي والجمهوري، لهما للانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. وسوف يجري تثبيت ترشيح المرشحَين رسميًا في المؤتمرَين الوطنيَين للحزبين؛ إذ سيعقد الحزب الجمهوري مؤتمره الوطني في مدينة ميلواكي في ولاية ويسكونسن، في تموز/ يوليو 2024، في حين سيُعقد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في آب/ أغسطس في مدينة شيكاغو في ولاية ألينوي. ونظرًا إلى حسم الانتخابات التمهيدية على نحو مبكر في الحزبين، فإنّ هذه ستكون واحدة من أطول الحملات الانتخابية العامة في التاريخ الأميركي الحديث.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
مرشّحان يرفضهما الناخب الأميركي
لم يواجه الخصمان منافسة حقيقية في الانتخابات التمهيدية؛ إذ إن بايدن فاز في كل الانتخابات التمهيدية التي جرت حتى اليوم، باستثناء ساموا الأميركية، ويصحّ الأمر نفسه على ترامب الذي فاز في كل الانتخابات التمهيدية الجمهورية حتى اليوم، باستثناء فيرمونت وواشنطن العاصمة اللتين خسرهما لفائدة منافسته السابقة، نيكي هيلي. ومع ذلك تُظهر استطلاعات الرأي أنّ غالبية الأميركيين ليسوا متحمسين لجولة ثانية من المنافسة بين الرجلين اللذين تواجها في انتخابات عام 2020 وما ترتب عليها من انقسامات حادة يخشى كثيرون أن تتعمّق أكثر في الشهور المقبلة. ولا يزال ترامب يصرّ على أنّ الرئاسة سُرقت منه عام 2020 عبر تزوير نتائج الانتخابات لفائدة بايدن، ويتبنّى هذا الرأي ثلث الأميركيين. ويواجه ترامب حزمة من القضايا الجنائية، بعضها يتعلق بمحاولته التأثير في نتائج الانتخابات في ولاية جورجيا التي خسرها ببضعة آلاف من الأصوات لمصلحة بايدن، واتهامه بتحريض أنصاره على اقتحام مبنى الكونغرس الأميركي يوم السادس من كانون الثاني/ يناير 2021؛ في محاولة لمنع التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية.
وتفيد استطلاعات رأي حديثة بأنّ نسبة تأييد الأميركيين لبايدن لا تتجاوز 38%، علمًا أنّ التجارب السابقة تُظهر أنّ شاغل المنصب يحتاج إلى تجاوز عتبة 50% من التأييد الشعبي للفوز بولاية ثانية. وبايدن هو الرئيس الأقل شعبية منذ الحرب العالمية الثانية في سياق سعيه لإعادة انتخابه. وكان جورج بوش الأب، وترامب نفسه، خسرا انتخابات الرئاسة الثانية، عامَي 1992 و2020، حيث كانت نسبة الرضا الشعبي عن أدائهما في حدود 40%. مع ذلك لا تبدو شعبية ترامب أفضل كثيرًا (40%).
يعمل بايدن وترامب على حشد “الصوت المضادّ” للخصم، إدراكا منهما لتدنّي شعبيتهما، تحت عنوان أنّ هذه الانتخابات مصيرية ويتوقّف عليها مستقبل أميركا. وألقى بايدن، بعد ضمان ترشيح حزبه، خطابا وصف فيه ترامب بأنه تهديد خطير للديمقراطية، وأنه “يدير حملة من المرارة والانتقام تهدد فكرة أميركا ذاتها”. بالمثل، أعلن ترامب بعد احتفاله بـ “يوم النصر الكبير” على منافسته هيلي، أنه من الضروري “أن نعود إلى العمل لأن لدينا أسوأ رئيس في تاريخ بلادنا”.
مع ذلك، لا تزال غالبية الأميركيين غير متحمسة لحقيقة أنّ الرجلين هما مرشّحا الرئاسة هذا العام، إذ قال 56% من البالغين الأميركيين إنهم غير راضين “جدًا” أو إلى “حدٍّ ما” إذا كان بايدن هو المرشح الرئاسي عن الحزب الديمقراطي؛ إذ إن بايدن يبلغ من العمر 81 عاماً، وهو أكبر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، ولا تخفى تأثيرات سنّه في قدراته الذهنية والبدنية. بينما قال 58% منهم إنهم غير راضين “جدًا” أو إلى “حدٍّ ما” إذا ما أصبح ترامب، البالغ من العمر 77 عاماً والذي يواجه قضايا جنائية ومدنية، فدرالية وولائية، مرشح الحزب الجمهوري. وفي حين يتمتع بايدن وترامب بدعم غالبية قواعد حزبيهما، إذ يقول ثلاثة أرباع الديمقراطيين إنّ نظرتهم إلى بايدن إيجابية، مقابل 7 من كل 10 جمهوريين يقولون القول نفسه عن ترامب، إلا أنّ فئة “المؤيدين بشدة” لترامب داخل الحزب الجمهوري (46%) أعلى من مثيلتها داخل الحزب الديمقراطي لفائدة بايدن (34%). وعلى الرغم من أن نسبة من ينظرون نظرة سلبية إلى بايدن وترامب بين عموم الناخبين متساوية (55%)، فإنّ الجمهوريين أشد حماسة لفترةٍ رئاسية ثانية لترامب (44%) مقابل 22% من الديمقراطيين لبايدن.
اتجاهات الرأي العام
تُظهر معظم استطلاعات الرأي التي أُجريت مطلع آذار/ مارس الجاري تقدمًا طفيفًا لترامب على بايدن بنسبة تراوح بين نقطتين وأربع نقاط. ورغم أنّ نتائج جميع استطلاعات الرأي الحالية تقع ضمن هامش الخطأ، فإنها ترسم صورة متشائمة لحظوظ بايدن. وتشير نتائج هذه الاستطلاعات إلى أن ترامب متقدم على بايدن في ولايات أريزونا وجورجيا ونيفادا بخمس نقاط أو أكثر. وكان بايدن ربح ولايات أريزونا وجورجيا وويسكونسن في انتخابات عام 2020 بفارق نقطة واحدة أو أقل، في حين لم يخسر أيّ مرشح رئاسي ديمقراطي ولاية نيفادا منذ عام 2004. ومع ذلك، حتى إذا خسر بايدن كل تلك الولايات فإنه لا يزال في إمكانه الظفر بالرئاسة إذا فاز في بقية الولايات الأخرى التي كسبها عام 2020، وسيعطيه ذلك 270 صوتا من أصوات المجمع الانتخابي Electoral College مقابل 268 لترامب. لكنّ بايدن في حاجة إلى أن يربح ولاية ميشيغان المتأرجحة، التي يعاني تراجع نسبة التأييد فيها لأسباب عدة، أهمها دعمه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة.
انتخابات الرئاسة الأميركية… سيناريو 2020 مكرر
ويقول استطلاع رأي أجرته شبكة سي بي إس نيوز في وقت سابق من آذار/ مارس الجاري، إنّ ترامب يتقدم على بايدن بنسبة 52% إلى 48% بين الناخبين المحتملين. إلا أنّ استطلاعًا تاليًا أجرته رويترز/ إبسوس أظهر أنّ بايدن يتقدم بفارق نقطة مئوية واحدة على ترامب؛ نظرًا إلى تأييد الناخبين المسجلين على المستوى الوطني له أكثر من تأييدهم لترامب. ولم يشارك سوى ثلثَي الناخبين المؤهلين في الانتخابات الرئاسية لعام 2020 التي هَزم فيها بايدن ترامب. ومع ذلك، يشير الاستطلاع نفسه إلى تقدّم ترامب على بايدن (40% إلى 37%) بين الناخبين المسجلين في الولايات السبع التي كانت نتائجها متقاربة جدًا بينهما عام 2020. وبما أن الانتخابات تجري على أساس الولايات وليس على المستوى الوطني، فإنّ هذا يعني أنّ بايدن ربما يربح الأصوات الشعبية، وربما يخسر في المجمع الانتخابي.
ويبين استطلاع للرأي أجرته صحيفة “يو أس إيه تودي” وجامعة سوفولك بعد خطاب بايدن عن “حالة الاتحاد” في الكونغرس في السابع من آذار/ مارس الجاري، أنّ وجهات نظر الناخبين الأميركيين حول وضع الاقتصاد قد وصلت إلى أعلى مستوى لها خلال رئاسة بايدن. وقال ثلث الناخبين المسجَّلين إنهم يعتقدون أنّ الاقتصاد يتعافى منذ جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، إلا أنّ ذلك لم يرفع من نسبة التأييد لبايدن.
ويزداد المشهد الانتخابي غموضًا إذا ما أخذنا في الاعتبار عامل المرشح المستقل روبرت إف كينيدي، الذي تشير استطلاعات الرأي إلى أنّه يحظى بدعم 15 في المئة من الناخبين المسجَّلين في حال تمكَّن من الحصول على التواقيع الكافية لوضع اسمه على بطاقات الاقتراع في عدد من الولايات. وتفيد حملة كينيدي الانتخابية بأنّ لديها ما يكفي من التواقيع لإدراج اسمه في ستّ ولايات، منها نيفادا وأريزونا وكارولاينا الجنوبية وجورجيا ونيوهامشير. ومع أنه يصعب الجزم بمن سيضر ترشح كينيدي أكثر، بايدن أم ترامب، إذ يبدو أنه يسحب من رصيد الاثنين على نحو متساوٍ، فإنّ حملة بايدن تخشى من أن يكلّفها ذلك خسارة ولايتَي نيفادا ونيوهامشير، ومن ثم، الرئاسة.
حظوظ بايدن وترامب
يُعدّ الرئيس بايدن في وضع انتخابي قويّ للفوز بفترة رئاسية ثانية، حيث شهدت فترة رئاسته الحالية تمرير جملة من التشريعات الكبرى، من قبيل قانونَي تطوير البنية التحتية، عام 2021، وبناء أشباه الموصلات، عام 2022، فضلًا عن اقتصاد قويّ وبطالة منخفضة ونموّ كبير. أضف إلى ذلك أنه أعاد تعزيز الثقة بالقيادة الأميركية بين حلفائها في العالم، خصوصًا في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بعد شكوك سادت حولها خلال رئاسة ترامب. ويوجد حاليًا لدى حملة بايدن واللجنة الوطنية الديمقراطية أكثر من 130 مليون دولار، أي ضعف ما لدى حملة ترامب واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، على نحوٍ يعطيه أفضلية في الأسابيع القادمة من حيث الإعلانات، وفتح المكاتب الانتخابية التابعة لحملته في الولايات الترجيحية، وتوظيف المزيد من الكوادر.
مع ذلك، لم تعزز هذه الوقائع وضع بايدن الشعبي والانتخابي؛ وذلك بسبب ارتفاع أسعار المواد التموينية والأساسية والإيجارات، فضلًا عن استمرار التضخم، رغم انخفاض نسبته في الشهور الأخيرة، وهي عوامل تؤثّر في المواطن الأميركي العادي، وتجعله يشكك في وعود الرئيس باستعادة الحياة الطبيعية بعد جائحة كورونا، التي اتهم سلفه ترامب بالفشل في التعامل معها. فالتحديات التي تواجه بايدن في التعامل مع أزمة الحدود وخفض أعداد المهاجرين غير الشرعيين تتيح لترامب فرصة لإثارة مخاوف شريحة واسعة من الأميركيين البيض مما يصفه بـ “الغزو الأجنبي” للبلاد. كما يخشى الكثير من الأميركيين، بما في ذلك قواعد الحزب الديمقراطي الفاقدة للحماس، من أن يكون بايدن غير مؤهل صحيّاً لولاية ثانية تنتهي عندما يبلغ عمره 86 عامًا. وتبدو آثار الشيخوخة واضحةً على بايدن، بدنيًا وذهنيًا؛ رغم محاولاته طمأنة الناخبين المتشككين في أنه لا يزال قادرًا على تولّي أهم منصب في العالم.
إلا أنّ أكبر تحدٍّ يواجه بايدن هو الحفاظ على التحالف الديمقراطي الواسع الذي بناه الرئيس الأسبق، باراك أوباما، عام 2008، وضمن له فترتين رئاسيتَين، في حين لم تتمكن هيلاري كلينتون من الحفاظ عليه، وكلّفها ذلك خسارة انتخابات عام 2016 لفائدة ترامب. ويتكون هذا التحالف من القاعدة التقليدية للحزب الديمقراطي، والتيار التقدمي والليبرالي، والأقليات والنساء والشباب. ونظرًا إلى أنّ بايدن استطاع أن يعيد ترميم هذا التحالف، عام 2020، مدفوعًا برغبة مكوناته حينها في التخلص من ترامب، فقد وصل إلى الرئاسة. لكنّ الوضع مختلف جدًا اليوم عمّا كان عليه عام 2020.
لقد أبانت الانتخابات الديمقراطية التمهيدية في يوم “الثلاثاء الكبير”، 5 آذار/ مارس الجاري، عن تصدّعٍ طرأ على التحالف الانتخابي لبايدن ربما يصل إلى حد التمرّد الاحتجاجي المنظم ضده؛ على خلفية موقفه من الحرب الإسرائيلية على غزّة. وكان أكثر من 100 ألف (13%) من العرب والمسلمين والتقدميين والشباب صوتوا بـ “غير ملتزم” في الانتخابات التمهيدية في ولاية ميشيغان المتأرجحة، تعبيرًا عن غضبهم من الدعم المطلق الذي يقدّمه بايدن للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وعدم فرضه وقفًا لإطلاق النار هناك. تكرر الأمر في ولاية مينيسوتا، حيث صوّت حوالى 46 ألفًا (20%) بـ “غير ملتزم”. وشهدت بطاقات الاقتراع الديمقراطية في ست ولايات أخرى في “الثلاثاء الكبير”، وهي ألاباما وكولورادو وآيوا وماساتشوستس وكارولاينا الشمالية وتينيسي، تصويتًا بـ “غير ملتزم”، وراوحت النسب في تلك الولايات بين 3.9% في ولاية آويا و12.7% في ولاية كارولاينا الشمالية.
وكانت كلينتون خسرت ولاية ميشيغان لترامب عام 2016 بأقل من 11 ألف صوت، في حين ربحها بايدن ضد ترامب، عام 2020، بأقل من 155 ألف صوت. وتُظهر استطلاعات الرأي الحالية تقدّم ترامب على بايدن في تلك الولاية. ويصحّ الأمر نفسه على ولاية مينيسوتا، التي كانت كلينتون ربحتها عام 2016 ضد ترامب بأقل من 44 ألف صوت. أما في ولاية كارولاينا الشمالية التي نجح بايدن في انتزاعها من ترامب عام 2020 بأقل من 74 ألف صوت، فقد صوّت أكثر من 88 ألفًا بـ “غير ملتزم”.
أما ترامب، رغم كونه أول رئيس سابق تُوجَّه إليه تهمٌ جنائية، فقد تمكّن من هزيمة كل منافسيه في الحزب الجمهوري في مرحلة مبكرة من الانتخابات التمهيدية. ورغم الاضطرابات والفوضى التي رافقت سنوات رئاسته الأربع، فإنّ غالب استطلاعات الرأي تُظهر تقدّمه على بايدن، خصوصًا في عدد من الولايات الترجيحية. وتركّز حملة ترامب جهودها الآن على ولايات ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن وجورجيا وأريزونا.
مع ذلك، يواجه ترامب تحدياتٍ كبيرةً ربما تعرقل مسعاه للحصول على فترة رئاسية ثانية. فهو يواجه من ناحية أربع قضايا جنائية منفصلة، بما مجموعه 91 تهمة. ويعاني، من ناحية أخرى، ضعف التأييد له بين شرائح معيّنة من الناخبين، وحتى من داخل حزبه. وكان استطلاع للرأي أظهر أنّ نحو 37% فقط من أنصار منافسته الجمهورية، نيكي هيلي، يعتزمون التصويت له بعد انسحابها من المنافسة على ترشيح الحزب الجمهوري. وقال نحو 16% إنّهم سيصوّتون لبايدن، في حين قال الباقون إنّهم سيصوّتون لشخص آخر أو لن يصوّتوا على الإطلاق. وأظهرت الانتخابات الجمهورية التمهيدية أنّ لدى ترامب مشكلة مع الناخبين في المدن والبلدات الجامعية والضواحي، التي تُعدّ موطنًا للجمهوريين المعتدلين والأكثر تعليمًا. مثلًا، في ولاية كارولاينا الشمالية المتأرجحة، التي تتزايد فيها أعداد الناخبين من خرّيجي الجامعات، قال 81% ممّن دعموا هيلي إنّهم لن يصوّتوا لفائدة ترامب في تشرين الثاني/ نوفمبر. أضف إلى ذلك أنّ اتهامات بايدن لترامب بأنه يمثّل خطرًا على الديمقراطية أثبتت نجاعتها في الانتخابات النصفية عام 2022، وربما تكون عاملاً مؤثّراً في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وكان ترامب توعّد أخيراً بـ “حمّام دم” في حال خسر هذه الانتخابات.
خاتمة
من السابق لأوانه التنبّؤ بمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، إلا أنّ الواضح أنّ المرشحَين، الديمقراطي والجمهوري، لا يحظيان بشعبيةٍ كبيرة بين الناخبين، ونقاط ضعفهما جليَّة. لذلك، ربما تكون الولايات المتحدة على أبواب معركةٍ سياسيةٍ وقضائية كبرى، في حال لم يفز أحد المرشحَين فوزاً حاسماً، وهو ما قد يضع استقرار الدولة أمام اختبار كبير.
المصدر: عرب 48