تقرير: ترامب يطلق "ثورة أميركية" ضد العالم

بعد مرور شهرين فقط على تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة لولاية ثانية، بات واضحًا أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يقود "ثورة في السياسة الخارجية الأميركية، ستؤدي إلى انقلاب النظام الدولي رأسًا على عقب من خلال زعزعته لاستقرار المؤسسات الراسخة وأنماط التعاون الدولي المستقرة وتدميرها".
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
هذا ما جاء في "تحليل" نشره موقع مؤسسة "كارنيجي للسلام الدولي" يقول فيه ستيوارت باتريك، الزميل البارز ومدير برنامج النظام العالمي والمؤسسات الدولية في المؤسسة، إن الولايات المتحدة "بعد أن ظلت منذ عام 1945 تلعب دور المدافعَ والضامن الرائد لنظام عالمي مفتوح ملتزم بالقواعد، في ظلّ القانون الدولي، ترفض الآن منطقَ التعددية، بما في ذلك الالتزام بأي قيود على ممارسة نفوذها، أو تحمل مسؤوليات القيادة والاستقرار العالميين".
ويشير باتريك، "الذي تركز أبحاثه على الأسس المتغيرة للنظام العالمي، ومستقبل الأممية الأميركية، ومتطلبات التعاون المتعدد الأطراف"، بحسب وصف التقرير، إلى أن السياسة الخارجية "لم تشهد مثل هذا التغيير الجذري بالنسبة لنطاقه وسرعته إلا كرد فعل على أحداث كبرى مفاجئة مثل الهجوم الياباني على بيرل هاربور أثناء الحرب العالمية الثانية أو هجمات 11 سبتمبر 2001 على نيويورك وواشنطن".
ويتابع أنه "في الوقت نفسه كان التغيير الجذري في الحالات السابقة يستهدف بناء أطر للتعاون والعمل متعدد الأطراف لاحتواء المخاطر التي تهدد المصالح العليا للولايات المتحدة. لكن مع ترامب يتجه هذا التغيير نحو تدمير الإطار المؤسسي للتعاون العالمي الذي طالما اعتبره العالم أمرًا مسلمًا به".
ويرى باتريك أنه "مع حلول الذكرى 250 لاستقلال الولايات المتحدة ونجاح ثورتها الأولى ضد الاحتلال البريطاني، يبدو أن ترامب قد أطلق ثورة أميركا الثانية لكنها هذه المرة ضد العالم الذي صنعته واشنطن تقريبًا منذ الحرب العالمية الثانية".
وبحسبه "تتردد أصداء هذه الثورة في السياسة الخارجية الأميركية عالميًا، إلى الدرجة التي أصابت حلفاء الولايات المتحدة القدامى بالذهول من تحولات إدارة ترامب، بدءًا من احتضانها لروسيا السلطوية، وانتهاء بتفكيك برامج ومؤسسات التنمية الدولية، مرورًا بتجاهل حلفاء واشنطن من الدول الديمقراطية".
كما يرصد باتريك مؤلف كتب "حروب السيادة: التوفيق بين أميركا والعالم" وكتاب"الروابط الضعيفة: الدول الهشة والتهديدات العالمية والأمن الدولي" في تحليله 10 ملامح جوهرية تجسد سياسة ترامب الخارجية.
– أول هذه الملامح هو التخلي عن الدور القيادي لأميركا في النظام العالمي. ففي العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، دافعت الإدارات الأميركية المتعاقبة عن نظام دولي منفتح وملتزم بالقواعد، واستثمرت فيه، ودافعت عنه، مع ترسيخ النفوذ الأميركي في المؤسسات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، وحلف شمال الأطلسي (ناتو) ومنظمة الأمم الأميركية.
وعلى النقيض من ذلك، يرى ترامب، بل ويرحب، بعالم لا قيمة فيه للأعراف والقواعد، حيث تكون جميع العلاقات عبارة عن صفقات تجارية، وتعكس نتائجها في نهاية المطاف ممارسةً سافرةً للسلطة. كما لم يقدم أي رؤية إيجابية لعلاقة الولايات المتحدة مع العالم، ولا المسؤولية الأميركية في الحفاظ على النظام العالمي والدفاع عنه، ولا يؤمن إلا بالمصالح الوطنية الضيفة، ولا بالقيادة الأمريكية للعالم.
– الملمح الثاني هو الإيمان بفكرة السيادة المطلقة. فإدارة ترامب تتبنى تفسيرًا دفاعيًا ومُشوّهًا للسيادة، يُشكّك في المنظمات والمعاهدات الدولية. ويرفض الالتزامات متعددة الأطراف، مُستندًا في ذلك إلى حجج واهية مفادها أنها تُقيّد حرية الولايات المتحدة في العمل وتُعرّض الحكم الدستوري للخطر، بينما تسمح للأطراف الأضعف بالتكتل ضدها.
وانطلاقًا من هذا التصور وجه ترامب وزير خارجيته، ماركو روبيو، بمراجعة كل المعاهدات الدولية التي وقعتها الولايات المتحدة والمنظمات الدولية المنضمة إليها وتقديم توصيات بالمعاهدات والمنظمات التي يجب الانسحاب منها بحلول أواخر تموز/ يوليو المقبل.
– ثالث الملامح هو تشويه الغرب وتحالفاته مع الولايات المتحدة. ففي تناقض سافر مع كل الرؤساء الأميركيين السابقين، لا يبدي ترامب أي تضامن مع الدول الديمقراطية المتقدمة الأخرى التي تشكل مع الولايات المتحدة معسكر "الغرب".
على سبيل المثال، يوضّح التقرير، يتعامل ترامب مع حلف الناتو باعتباره لا يزيد على صاروخ حماية، متجاهلاً الهوية الجماعية التي شكلت ملمحًا لأنجح حلف في التاريخ.
وقد أثار استعداد ترامب لمهاجمة الغرب، في ضوء نهجه العدائي تجاه حلف الناتو ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى والاتحاد الأوروبي قلق الشركاء. ومع تآكل ثقة الأوروبيين في مدى التزام الولايات المتحدة بالدفاع المشترك بموجب المادة الخامسة من ميثاق الناتو، بدأت ألمانيا محادثات مع فرنسا وبريطانيا بشأن إقامة منظومة أسلحة نووية مشتركة. كما قالت ممثلة الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية، كايا كالاس، بعد اجتماع ترامب الكارثي في البيت الأبيض مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إن "العالم الحر بحاجة إلى قائد جديد".
– الملمح الرابع لثورة ترامب المدمرة في السياسة الخاجية، ودائمًا بحسب ما جاء في التقرير، هو إحياء مناطق النفوذ. تتجلى رؤية ترامب للعالم، المُركّزة على القوة، جليًا في سعيه إلى إقامة منطقة امتيازٍ حصري للولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي. فتصميمه على ضم جزيرة جرينلاند وقناة بنما، وضم كندا إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الحادية والخمسين، ونشر الجيش على حدود المكسيك، يُحيي مبدأ مونرو. وهذه الممارسات تؤدي إلى نفور جيران وحلفاء الولايات المتحدة منها، في الوقت الذي تضفي فيه المشروعية على جهودٍ مماثلة تبذلها موسكو وبكين، على التوالي، لإعادة تأكيد سيطرتهما على "الجوار القريب" لروسيا في شرق أوروبا والهيمنة على بحر الصين الجنوبي بالنسبة لبكين.
– خامس الملامح، يقول ستسوارت، هو تجاهل القانون الدولي. فعلى عكس أسلافه، إذ يُفضّل ترامب شريعة الغاب على سيادة القانون في السياسة العالمية. وخلال ولايته الأولى، سعى الرئيس الأميركي عبثًا، إلى إضعاف النظام القانوني الدولي. لكن عودته إلى السلطة تُتيح له فرصةً أخرى لإنجاز هذه المهمة الخطيرة سواء على صعيد تجاهل حقوق الإنسان أو السعي لتوسيع النفوذ الإقليمي..
وقد انحاز بالفعل إلى جانب نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في حربه العدوانية ضد أوكرانيا، كما يدافع وزير دفاعه، بيت هيجسيث، عن الجنود الأميركيين الذين ارتكبوا جرائم حرب، في حين يتبنى مستشاره للأمن القومي، مايكل والتز، استخدام القوات المسلحة ضد عصابات المخدرات في المكسيك.
– سادس الملامح هو تفضيل العلاقات الثنائية القائمة على التنمر. ففي ضوء نهجه القائم على منطق الصفقات التجارية في العلاقات الدبلوماسية وعقد الاتفاقات الدولية، يُفضِّل ترامب، كما هو متوقع، التفاوض مع الدول الأخرى بشكل ثنائي، بدلًا من الأطر متعددة الأطراف التي تقلُّ فيها أهمية القوة الأميركية.
وحيثما يتطلب الأمر عملًا جماعيًا، يُفضِّل ترامب ترتيباتٍ محوريةً تضمن وجود زمام الأمور في قبضة الولايات المتحدة، كما هو الحال في "اتفاقيات أرتميس" لاستكشاف الفضاء. وهذا الملمح يفسر نفور الرئيس الأميركي من الاتحاد الأوروبي، وقوله المتكرر أنه "شُكِّل لخداع الولايات المتحدة". وبشكلٍ أعم، يتجاهل ترامب أن العلاقات الدولية ليست لعبةً أحادية ، أشبه بصفقة عقارية، بل هي لعبةٌ مُتكررةٌ ، حيث يجب كسب السمعة والثقة والمصداقية، وموازنة الفوائد بمرور الوقت.
– الملمح السابع هو رفض التعددية الاقتصادية. فقد استند النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية إلى ظهور نظام دولي متعدد الأطراف ومفتوح ويستند إلى القانون في التجارة والمدفوعات الدولية، تحكمه مؤسسات بيرتون وودز والاتقاقية العامة للتعريفة والتجارة "جات" ومنظمة التجارة العالمية. وكان عدم التمييز والمعاملة بالمثل أهم ركائز هذا النظام التجاري العالمي المتجسدة في مبدأ الدولة الأكثر رعاية، الذي ينص على أن أي تنازل يُمنح لشريك تجاري واحد يجب أن يمتد إلى جميع الشركاء. ومع ذلك، على مدى العقدين الماضيين، لم تحقق منظمة التجارة العالمية وظائفها في تحرير التجارة أو حل النزاعات. في المقابل يبدو أن ترامب عازم على توقيع إعلان وفاتها، مع تبنيه للرسوم الجمركية ورفض مبدأ الدولة الأكثر رعاية لصالح المعاملة بالمثل الثنائية الصريحة. وعلى حد تعبير أحد خبراء التجارة البارزين، "منظمة التجارة العالمية في مهب الريح".
– الملمح الثامن هو التنكر للتنمية العالمية. وقد فككت إدارة ترامب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ودمجت بقاياها في وزارة الخارجية، وهو القرار الذي له تداعيات كارثية ليس فقط على المصالح الوطنية للولايات المتحدة وسمعتها وإنما أيضا على الجهود العالمية لمحاربة الفقر والجوع والمرض والاضطراب والكوارث المناخية وغير ذلك الكثير. ولم تكتف الإدارة الأميركية بوقف تمويلها لهذه الجهود وإنما أعلنت الحرب على أهداف التنمية المستدامة العالمية، وأعلنت اعتزامها رفض الإشارة إليها في قرارات ووثائق الأمم المتحدة على أساس أنها تهدد بشكل ما السيادة الأميركية. وتتزايد المخاوف داخل الأمم المتحدة من احتمال انسحاب الولايات المتحدة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنوك التنموية متعددة الأطراف.
– الملمح التاسع هو التخلي عن دعم الديمقراطية في العالم. فبميله إلى الحكام الأقوياء، تراجع ترامب عن السياسة الأميركية المستمرة منذ عقود، لدعم الديمقراطية في الخارج. وبعيدًا عن وقف أنشطة دعم الديمقراطية الخاصة بوزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية الأميركية، دمَّر ترامب منظمات الصندوق الوطني للتنمية وفريدم هاوس والوكلة الأميركية للإعلام العالمي التي تدعم إذاعة صوت أميركا، وغيرها من المؤسسات الإعلامية الأميركية التي تروج للديمقراطية في الخارج. ورغم أن الجهود الأميركية لدعم الديمقراطية كانت انتقائية غالبًا، مما عرض الولايات المتحدة للاتهام بالنفاق، وكانت عرضة للتجاوزات كما حدث في قمة الديمقراطية التي عقدتها الإدارة الأميركية السابقة، فإنها قدمت المساعدة والأمل للكثيرين من المعارضين ونشطاء الديمقراطية في العالم. لكن تصرفات ترامب تبدد الإيمان العالمي بالولايات المتحدة كصديق للحرية.
– الملمح العاشر هو رفض فكرة الفائدة العامة العالمية. وتُنكر إدارة ترامب أي حاجة للمؤسسات متعددة الأطراف لتوفير فوائد عامة عالمية – أو التخفيف من "الآثار السلبية" العالمية. فالبيت الأبيض ينكر حقيقة تغير المناخ، ويتجاهل انهيار التنوع البيولوجي، ويُقلل من خطورة أضرار التلوث، ويُشكك في مبررات التعاون البيئي الدولي. وانسحب من منظمة الصحة العالمية بناءً على افتراض وهمي بأن الولايات المتحدة قادرة على إعادة إنتاج وظائفها على أساس وطني مُخصص. كما رفض أي حاجة لوضع قيود دولية لمواجهة المخاطر المتزايدة على السلامة والأمن والاستقرار الجيوسياسي التي يُشكلها الذكاء الاصطناعي، بهدف تحقيق هيمنة أميركية مطلقة اعتمادا على التفوق المأمول للولايات المتحدة في هذا المضمار.
أخيرًا يقول ستيوارت باتريك في تحليله إن ترامب أطلق ثورته ضد نظام عالمي صناعة أميركية. في الوقت نفسه فإن انتشار هذه الثورة عالميًا أو مقاومتها أو حتى إثارتها لثورة مضادة سيكون خارج سيطرته. فإلى جانب تقويضها لمصالح ومصداقية الولايات المتحدة طويلة المدى، فإن سياسات إدارة ترامب تخلق فراغًا في قيادة العالم، سيسعى الآخرون لملئه سواء أدى ذلك إلى الخير أو الشر للعالم. وفي كل الأحوال لن يكون النظام العالمي الجديد صناعة الولايات المتحدة بمفردها.
اقرأ/ي أيضًا | تقدير موقف | الانتخابات الرئاسية الأميركية: أسباب فوز ترامب والتداعيات المحتملة
المصدر: عرب 48